سياسة
سيادة الرئيس دونالد ترامب،
تحية طيبة وبعد،
إنني إذ أكتب إليكم اليوم كفلسطيني من أبناء غزة المكلومين، أجد نفسي أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية تقتضي نقل الحقيقة كما هي، بعيدًا عن أي تزييف أو تحريف، خاصة في ظل ما تشهده منطقتنا من أحداث جسام، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ظلم وقهر متواصل. وذلك ضمن محاور رئيسة تمثل الواقع وفقًا لما يلي:
المحور الأول: تاريخ الأرض بين الحقيقة والادعاء
إن الحديث عن تاريخ فلسطين يبدأ منذ فجر التاريخ، قبل مولد سيدنا إبراهيم عليه السلام، حين سكنها الكنعانيون الذين أسسوا فيها حضارتهم الممتدة لآلاف السنين، وهم أقدم الشعوب التي استوطنت المنطقة. وحين وصل إليها إبراهيم عليه السلام واستقر بها، وُلِد له إسماعيل وإسحاق، ومن نسل إسحاق جاء يعقوب عليه السلام، الذي رحل مع أبنائه إلى مصر تحفهم رعاية الرحمن، ومن ثم رعاية ابنه يوسف عليه السلام عندما أصبح عزيزها.
وبعد مئات السنين، وحين استباح فرعون دماءهم واستحيا نساءهم، خرج نسل يعقوب من أرض مصر قاصدًا أرض فلسطين تحت قيادة نبوية لسيدنا موسى عليه السلام، فواجهوا اختبارات عدة في سيناء. وعندما أمرهم الله بدخول فلسطين، رفضوا، متحججين ومعترفين بأن فيها “قومًا جبارين”، في إشارة واضحة إلى الوجود الكنعاني، أجدادنا نحن شعب فلسطين، وهو اعتراف واضح بأن الأرض لم تكن فارغة. وحتى حين أقاموا دولتهم لاحقًا، لم تدم طويلًا، وقامت على جزء بسيط من أرض فلسطين، وسرعان ما تبددت تحت وطأة الصراعات الداخلية وتنازعهم على الحكم وقتلهم الأنبياء.
المحور الثاني: التعايش والصراعات عبر التاريخ
عاش اليهود في فلسطين إلى جانب أهلها الأصليين والاستعمار الروماني، في ظل صراعات داخلية بينهم، ومن زاوية أخرى أنبرت العديد من قياداتهم نحو موالاة الحاكم الروماني، فشاركت مجموعات منهم في المؤامرات ضد السيد المسيح وأمه مريم العذراء عليهما السلام، فاتهموهما زورًا، وسعوا لصلبه بالتعاون مع الحكم الروماني، لكن الله رفعه إليه، وهذا ما يؤمن به جميع المسلمين.
ما دفعهم إلى الهجرة إلى مناطق مختلفة، من بينها العراق والجزيرة العربية، حيث استقر جزء منهم في يثرب (المدينة المنورة اليوم). إلا أنهم، بسبب تآمرهم وفسادهم، تعرضوا للإجلاء في عهد النبي محمد ﷺ. وفي زمن الخليفة عمر بن الخطاب، حيث تم فتح القدس عام (637م)، استلمها من البطريرك صفرونيوس، الذي طلب ألا يُسمح لليهود بالإقامة فيها.
وعلى مدى أكثر من (1400) عام، عاشت فلسطين تحت الحكم الإسلامي الذي ضمن التعايش بين مختلف الديانات، بينما ظل اليهود مشتتين في أرجاء العالم، حتى جاءت الحقبة العثمانية، التي استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، التي جاءت بالاستعمار البريطاني، الذي مهد لزرع المشروع الصهيوني في أرض فلسطين، عبر مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وهي كذبة كبرى.
ثم جاء قرار التقسيم عام (1947)، والذي رغم ظلمه، قَبِل به الفلسطينيون والعرب، بينما رفضته إسرائيل، واستمرت في احتلال الأرض وارتكاب المجازر منذ عام (1948)، حيث يُذبح الشعب الفلسطيني بلا رادع وحتى يومنا هذا.
المحور الثالث: اتفاقيات السلام وعرقلة الحلول
سيادة الرئيس: على الرغم من كل العقبات، سعى الفلسطينيون بصدق نحو تحقيق السلام، بدءًا من اتفاق أوسلو بقيادة الشهيد ياسر عرفات، الذي مهد لإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية. غير أن إسرائيل عرقلت تنفيذ الاتفاق، وبلغ ذلك ذروته باغتيال رئيس وزرائها إسحاق رابين، مما شكل ضربة قاسية لعملية السلام.
ومع صعود بنيامين نتنياهو إلى السلطة وتحالفه مع اليمين المتطرف، تعمقت الأزمة، وواجهت السلطة الفلسطينية تضييقًا ممنهجًا، رغم حرص القيادة الفلسطينية على إشراك مختلف القوى والفصائل في العملية الديمقراطية، بما في ذلك إقناع حركة حماس بالمشاركة في الانتخابات التشريعية، وبدعم وترحيب عربي وإقليمي ودولي، إلا أن ذلك أعقبه الانقسام الفلسطيني، الذي استغلته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لتعزيز الحصار على قطاع غزة.
وعلى مدار (17) سنة، فرضت إسرائيل عزلة خانقة على غزة، تخللتها خمس حروب مدمرة، بلغت ذروتها في العدوان الأخير، الذي استهدف جميع مقومات الحياة في القطاع.
سيادة الرئيس، لقد رفضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جميع المبادرات العربية للسلام، رغم أنها لم تحقق الحد الأدنى من التطلعات الفلسطينية. هذا الرفض لم يكن عشوائيًا، بل هو انعكاس لعقيدة سياسية صهيونية متشددة ترفض إقامة أي دولة فلسطينية مستقلة. وتأكيدًا على ذلك، تستمر إسرائيل في تحدي قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، متجاهلة بذلك الإرادة الدولية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
المحور الرابع: الحرب على غزة والعقاب الجماعي
سيادة الرئيس: بعد الحرب الطاحنة التي شهدتها غزة منذ السابع من أكتوبر (2023)، والتي أدت إلى دمار غير مسبوق، كان العقاب جماعيًا، بحجة أن أهل غزة مسؤولون عن الأحداث. ولكن دعني أوضح أن من أسباب ما حدث في السابع من أكتوبر لم يكن إلا نتيجة لعقود من القمع والاحتلال، وما كان ليحدث لو كان هناك حل عادل يضمن حقوق الفلسطينيين.
ولكن حكومات إسرائيل مارست سياسات احتجاز آلاف الأسرى الفلسطينيين لعشرات السنين، فقد تجاوزت مدة احتجاز بعضهم الأربعين سنة، ومارست التوسع الاستيطاني، ورفضت الاعتراف بدولة فلسطينية، ووضعت غزة في حصار وعزلة مستمرتين. وضيقت الخناق على السلطة الفلسطينية من خلال اقتطاع أموال الضرائب بهدف الابتزاز والضغط السياسي والاقتصادي، مما زاد من معاناة الشعب الفلسطيني.
سيادة الرئيس: خلال فترة الحرب، والتي نعيش فصولها حتى اليوم، تعرضت غزة لدمار هائل في بنيتها التحتية وبيوتها وكافة مقدراتها، كما مُسحت عائلات بأكملها من السجل المدني بتدمير منازلهم فوق رؤوسهم.
تخيل، سيادة الرئيس، أنك في منزلك في البيت الأبيض، وأحفادك الصغار يلهون من حولك؛ أحدهم يداعبك، والآخر يجلس في حضنك، وثالث يتسلق كتفيك. وفجأة، تستفيق لتجد نفسك الناجي الوحيد في المستشفى، وعند السؤال؟ يُقال لك إن صاروخًا من دولة معادية هو السبب. كيف سيكون شعورك في تلك اللحظة؟ فهلا تخيلت المشهد في غزة؟ (أعلم أن الإجابة لا)، فهذا المشهد لم يكن لمرة واحدة بل تكرر آلاف المرات.
ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، بلغ عدد الشهداء منذ السابع من أكتوبر (2023) حتى اليوم قرابة (50) ألف شهيد، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى أكثر من (110) ألف جريح.
المحور الخامس: العدالة لا تُجزَّأ
سيادة الرئيس: إن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل بالنسبة لي في جزء منه مبرر، ولكن لا ينبغي أن يكون على حساب الحقوق التاريخية والإنسانية للشعب الفلسطيني، فاستمرار الاحتلال ورفض إسرائيل الاعتراف بدولة فلسطين، والجرائم المستمرة بحق الفلسطينيين، كلها تمثل تحديًا للقوانين الدولية ومبادئ العدالة.
واليوم يا سيادة الرئيس، تُمنح غزة والمقاومة مهلة حتى الخامس عشر من فبراير لتسليم الأسرى الإسرائيليين، رغم أنه لا يوجد ما يدعو لهذا التأزم والوعيد. فهذا لا يليق بمقامكم ولا يخدم الجهود الدبلوماسية الحكيمة. وهنا يستحضرني قول جدي: (الحاج علي) رحمه الله وطيب ذكراه، الذي كان ينصح في مثل هذه الأزمات قائلًا:
“في ظل التهديدات الخارجية التي تمس العائلة أو المدينة، لا نحتاج إلا للرجل الرشيد المهيب الذي لا ينطق بكلمة واحدة، فوجوده وحده يكفي ليُحسب له ألف حساب. لذلك يتصارع الأطراف للتلويح باسمه، ولذلك تراهم يحفظون هيبته ومكانته”.
فكن أنت، سيادة الرئيس، هذه القامة المحورية التي يُحسب لها حساب، ولا تنزل إلى مستوى سيسجله التاريخ عليك. وفي هذا السياق، ندعوكم إلى التحلي بالحيادية والنزاهة في رؤية الأحداث. فالمشهد الذي أثار حفيظتكم، والمتمثل في الحالة الصحية للأسرى الإسرائيليين المفرج عنهم يوم السبت (8 فبراير 2025)، يستدعي نظرة مماثلة نحو الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم من السجون الإسرائيلية.
كيف هي أحوالهم النفسية والصحية؟ سيادة الرئيس، الأسرى الفلسطينيون ليسوا بخير. فهم يعانون أشد المعاناة في سجون الاحتلال، خاصة تحت إدارة المتطرف إيتمار بن غفير، حيث يُذلون ويُجوعون، ويتعرضون للتعذيب والانتهاكات الجسدية والنفسية في ظل صمت عالمي مخزٍ.
لذا، فالأمر بسيط، سيادة الرئيس: هلا اتخذتم اليوم قرارًا بتشكيل لجنة طبية ونفسية متخصصة ومهنية للتحقيق في أوضاع الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، حتى تتجلى لكم الحقيقة كاملة؟
اليوم، سيادة الرئيس، أكرر مقولة الرئيس محمود عباس: “احمونا”، لا أن تقتلونا. نحن نستحق الحياة، والعدالة لا تُجزَّأ.
المحور السادس: التهجير القسري مشروع كارثي
سيادة الرئيس، إن طرح فكرة تهجير سكان غزة بالقوة هو جريمة إنسانية تعيدنا إلى عصور الاستعمار البغيض. ومن المؤسف أن يأتي هذا الطرح من رئيس الولايات المتحدة، دولة الديمقراطية وحقوق الإنسان. فمثل هذا الإجراء ليس حلًا، بل كارثة إنسانية ستبقى وصمة عار في تاريخ البشرية.
والتاريخ لا ينسى القادة الذين صنعوا السلام والعدالة، تمامًا كما لا ينسى أولئك الذين دعموا الظلم والدمار. إن مسؤوليتكم التاريخية والأخلاقية تحتم عليكم الوقوف في “لوحة شرف الإنسانية”، إلى جانب الحق والعدالة، وضد الإبادة الجماعية وسياسات التهجير القسري.
سيادة الرئيس، لا تجعلوا من إدارتكم شريكًا في مأساة شعب يُقتلع من أرضه، فتلك وصمة لا يمحوها الزمن، ودماء الأبرياء ستظل تلاحق كل من أسهم أو تغاضى عن هذه الجريمة. كما إن العدالة تقتضي ألا يكون الحل على حساب الضحية، بل بمعالجة جذور المشكلة. لذا، اسمح لي أن أطرح أمام سيادتكم مقترحات، لعلها تكون سببًا لحل الأزمة بعيدًا عن سياسات التهجير والعقاب الجماعي:
في الختام، سيادة الرئيس،
إن الله لا يترك من يفسد في الأرض ويمعن في الظلم والطغيان. والتاريخ يُكتب الآن، فاختر موقفك بحكمة. فالإنسانية لن تغفر لمن يتجاهل معاناة الأبرياء أو يكرّس الظلم، وهذه لحظة فارقة، وموقفكم اليوم سيظل شاهدًا للأجيال القادمة، فاجعله موقفًا يُحتذى به في شريعة العدالة والإنسانية.
مع الاحترام والتقدير.