Blog

سبيستون.. أثر لا يُمحى

مارس 12, 2025

سبيستون.. أثر لا يُمحى

للكاتب: عبد الرحمن حسنيوي


ليس من المبالغة القول إن قناة سبيستون كانت أكثر من قناة تلفزيونية؛ بل هي تجربة ثقافية ومعنوية شكّلت وجدان جيل التسعينات، وخلقت ذاكرة جماعية فريدة تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية. ففي مطلع الألفية، انفتح أمام أطفال جيل التسعينات أفق جديد حمل معه عالمًا متكاملاً من الخيال والإبداع والقيم السامية. فوسط الخيارات المحدودة التي قدّمتها قنوات التلفاز للأطفال آنذاك، جاءت قناة “سبيستون” لتُحدث تحولاً كبيرًا في عالم الترفيه، فكانت أكثر من مجرد مصدر للمتعة، بل أصبحت مدرسة ترسّخ في أذهان جيل كامل قيم الصداقة، والإصرار، والشجاعة، ومعاني إنسانية عميقة أخرى.


قدّمت سبيستون تجربة استثنائية جمعت بين الترفيه والتعليم، مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من حياة جيل التسعينات، حيث لم تكن قناة تلفزيونية عادية، بل منظومة متكاملة أسهمت في تشكيل وعي ذلك الجيل وصقل قيمه وثقافته وأحلامه وتطلعاته. حيث إن نظام الكواكب الذي ابتكرته القناة كان خطوة مبتكرة أتاحت للأطفال استكشاف محتوى متنوع يناسب اهتماماتهم، على سبيل المثال لا الحصر: كوكب الأكشن والمغامرة اللذين كانا بوابة لعشّاق المغامرات والإثارة، وكوكب زمردة الذي وفّر مساحة تلبي أحلام الفتيات، في حين فتح كوكب العلوم آفاقًا جديدة أمام عقول صغيرة متعطشة للاكتشاف والتعلّم… هذا التنوع صنع تجربة غنية جعلت الأطفال يعيشون مغامرات مختلفة يوميًا، وكأنهم ينتقلون بين عوالم خيالية لا حدود لها.


إضافة إلى ذلك، لعبت الدبلجة العربية دورًا محوريًا في نجاح القناة، حيث كانت أكثر من مجرد ترجمة للنصوص؛ كانت عملية إبداعية تعيد صياغة الحوارات بما يتناسب مع القيم الثقافية واللغوية للحضارة العربية الإسلامية. فقد كانت المسلسلات التي قدّمتها القناة، مثل: “القناص” و”المحقق كونان” و”عهد الأصدقاء” و”الكابتن ماجد” و”أنا وأخي” و”ريمي” و”هزيم الرعد”…، نموذجًا لقصص إنسانية عميقة لم تقتصر على الترفيه، بل غاصت في معانٍ نبيلة مثل التضحية، والإصرار، وحب العائلة… مما جعل من شخصيات تلك المسلسلات نماذج ملهمة للأطفال، تحمل قيمًا تدعو إلى الخير والإيجابية والتفاؤل.


إلى جانب ذلك، كانت الأناشيد التي عُرضت بين البرامج تُضفي طابعًا خاصًا على التجربة، حيث لم تكن أغنيات عابرة للتسلية، بل رسائل ملهمة تنبض بالأمل والطموح، على سبيل المثال: “سنعود، والأمل طريقنا”، و”حلمنا نهار.. نهارنا عمل.. نملك الخيار.. وخيارنا الأمل”، و”نسيت الحزن شوقًا للغد الأفضل.. دروب قد قطعتيها أفينا البعد أم فيها”، هذه الكلمات حملت معاني عميقة خاطبت أحلام الأطفال وشجعتهم على السعي لتحقيقها. وبفضل هذه الأناشيد أصبحت القناة جزءًا من الذاكرة الجماعية لجيل التسعينات، وتركت أثرًا مستمرًا في حياتهم حتى بعد مرور سنوات طويلة. وهكذا، نجحت القناة في تحقيق رسالتها التي تجسّدت منذ انطلاقتها تحت شعار “سبيستون قناة شباب المستقبل”.


علاوة على ذلك، يحمل جيل التسعينات ذكريات حيّة ودافئة عن تلك الأيام، حيث كانت شارات البداية لمسلسلات مثل: “القناص” و”دراغون بول” و”بابار” و”ماوكلي” و”سالي”…، توقظ فيهم حماسًا طفوليًا وتجذبهم نحو الشاشة. كما لم تكن تلك العروض تقتصر على التسلية، بل كانت تجارب غنية بالشغف والترقب والحماس، تتجمّع حولها الأسرة بأكملها في لحظات مميزة تفيض بالبهجة والتأمل والفرح… حيث كان الأهل يشاركون أبناءهم تلك اللحظات، مما عزّز الروابط العائلية وترك أثرًا عميقًا في الذاكرة والقلوب.


عند مقارنة طفولة جيل التسعينات بالواقع الذي يعيشه أطفال اليوم، يتّضح الفارق الكبير، لأن جيل التسعينات عاش في زمن كان فيه المحتوى الإعلامي مدروسًا ويوفّر توازنًا بين الترفيه والتعليم، بينما يعاني أطفال العصر الرقمي من تحديات تتعلق بتعدّد المصادر وتنوع المحتوى، ما يؤدي إلى تشتت الانتباه، وانعدام التوجيه، وانعدام القدرة على الضبط والمراقبة. وبالتالي، فقد كانت سبيستون ملاذًا يضمن محتوى ممتعًا ومفيدًا في الوقت ذاته، ما ساعد الأطفال على الاستمتاع ببرامج تحترم عقولهم وبراءتهم.


في الأخير، لم تكن سبيستون وسيلة ترفيه عابرة في حياة جيل التسعينات، بل تجربة ثقافية وإنسانية تركت أثرًا لا يُنسى من خلال برامجها الغنية بالرسائل الإيجابية، وأغانيها التي ألهمت الأطفال، ومحتواها الذي جمع بين القيم التربوية والمتعة. حيث أسهمت القناة في بناء جيل واعٍ ومفعم بالأمل، وحتى اليوم تعيش تلك الذكريات في قلوب الملايين في الوطن العربي، وتظل سبيستون رمزًا لمرحلة زمنية مميزة ساهمت في تشكيل وجدانهم.

شارك

مقالات ذات صلة