سياسة
في خضم موجة التحولات الأفريقية الكبرى، وأمام حشدٍ من الزعماء الأفارقة وقف بنيامين نتانياهو يلقي خطابه في رحاب القمة الأفريقية الإسرائيلية، معلنًا بحماسة نيته مواصلة نبوءة أب الصهيونية تيودور هرتزل حين قال “بعدما أُحررّ الشعب اليهودي، سأتوجه نحو أفريقيا لتحرير السود” وتعهدّ نتنياهو -هو أيضًا بدروه – بأن يساعد القارة للانعتاق من قوى الظلام التي تهدد بإعادتها إلى العصور الوسطى، قاصدًا بذلك الحركات المسلحة التي تهددها. وهكذا وعلى مدى سنواتٍ، تبنت إسرائيل منهجًا ثلاثي الأضلاع في تعميق علاقاتها مع القارة؛ أمني ومالي ثم ديني.
(١)
فأولًا، عمد المدربون العسكريون الإسرائيليون في الشركات الأمنية الخاصة إلى توسيع رقعة نفوذهم، مشكلين جسورًا مع الأوساط الحاكمة في أفريقيا. حيث شهدت القارة تأثيرًا بالغًا من “مجموعة مير” و”بلاك كيوب” الإسرائيليتين التي تعملان في مجال التدريب العسكري، واللتان كانتا نقطة محورية في تعزيز العلاقات مع الدوائر الأمنية الأفريقية، ومع رؤساء تلك الدول.
وبحلول العام 2024، كانت قوات الكوماندوز الإسرائيلية قد أنهت تدريب قوات محلية في أكثر من اثنتي عشرة دولة أفريقية. وتُظهر التقارير كيف أن دولًا مثل إثيوبيا، رواندا وكينيا، إلى جانب دول أخرى مثل أوغندا زامبيا وتوغو، تُظهر دعمًا لإسرائيل أو تمتنع عن التصويت ضدها في الأمم المتحدة، وأحد المؤشرات على ذلك ضغط هذه الدول لمنح إسرائيل صفة مراقب لدى الاتحاد الأفريقي، صفة ستُجمّد لاحقًا بفعل جهودٍ جنوب-أفريقية جزائرية، وهي قصة لم تنته حيثياتها بعدُ في رأيي.
(٢)
ويتجلى الضلع الثاني للنفوذ الإسرائيلي في أفريقيا في استثمار رجال الأعمال الإسرائيليين ضمن الأوساط الحكومية وقطاع الأعمال، بما في ذلك مبيعات الأسلحة بتسهيلات كبرى مقابل تمرير أجندات إسرائيل، ومن بين هؤلاء يبرز بشكل لافت دان غيرتلر، الذي يُعد وجهًا بارزًا لهذا التوغل الإسرائيلي في شؤون القارة الأفريقية، والذي نشأ في كنف عائلة عُرفت بتقاليدها العريقة في تجارة وتلميع الألماس، حيث تلقى تعليمه المبكر في هذا المجال من والده وجده.
من منطلق إرثه العائلي الذي يعود إلى عصر الاستعمار، شق غيرتلر طريقه في مجال استغلال الألماس في شرق أفريقيا، مستفيدًا من الفترة الطويلة التي حكم خلالها رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية السابق، جوزيف كابيلا، فحصل على عقودٍ كبيرة وأحيانًا مثيرة للجدل لتصدير الألماس والذهب والنفط والكوبالت وغيرها من المعادن النفيسة. استطاع من خلال هذه العقود ترسيخ نفوذه -ومن ورائه إسرائيل- في شرق أفريقيا وما وراءها، مكونًا ثروة تقدرها مجلة “فوربس” بنحو ملياري دولار في عام 2023. لم تتعززّ مكانة غيرتلر في أفريقيا إلا بفضل علاقاته الوثيقة مع شخصيات متنفذة، التي كان بعضها متورطًا في جرائم حرب بالكونغو.
كان لتحقيق الصحفي مارتن بلوت في يونيو 2022 دورٌ كبير في الكشف عن مساهمة شخصيات إسرائيلية نافذة كانت تعمل ضمن الحكومة الإسرائيلية تحت حكم بنيامين نتنياهو، في تقديم الدعم لغيرتلر. من هذه الشخصيات يوسي كوهين، الذي كان مديرًا للموساد، وقد قام بثلاث زيارات إلى الكونغو الديمقراطية في عام 2019 للتوسط لصالح غيرتلر لدى الرئيس جوزيف كابيلا. هذا الأمر يظهر دان غيرتلر ليس فقط كرجل أعمال يعمل لمصلحته الخاصة، بل كأداة للدولة الإسرائيلية والموساد، لإحداث تأثير عميق في الدوائر السياسية الأفريقية.
(٣)
أما الضلع الثالث والأكثر خطورة في تقديري الخاص، هو استغلال الدين كأداة للسيطرة، وهذا يقتصر -غالبًا- على مسيحيي القارة الذين يمثلون نسبة 60% من الديانات في القارة. فمع مطلع القرن العشرين، برزت على الساحة الأفريقية كنائس جديدة تُعرف بالكنائس الخمسينية الأفريقية، والتي أخذت على عاتقها مزج المعتقدات الأفريقية مع تعاليم العهد القديم، محاولةً للاندماج بين الثقافة الأفريقية والمسيحية. وقد أظهرت الإحصاءات الراهنة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أنّ الخمسينية تُمثّل 36% من المسيحيين الذين يصل عددهم 564 مليونا و5 آلاف، مما يظهر نمواً ملحوظاً مقارنة بعام 1970 حيث كانوا يشكلون فقط 13% من المسيحيين في المنطقة.
وتتميز هذه الكنائس بأن لها جذوراً أقرب مع العقيدة اليهودية مقارنةً بالطوائف الدينية الأخرى، حيث ينجذب الخمسينيون نحو اليهودية استناداً إلى تفسيرات مباشرة للكتاب المقدس، ويرفضون نظرية “استبدال الشعب” التي تزعم أن اليهود فقدوا مكانتهم كشعب مختار نتيجة رفضهم للمسيح، مصرين على أن العهد الإلهي مع اليهود ما زال سارياً ويرون في النظرية مغالطة تم ترويجها عبر الكنائس التبشيرية الغربية. وهذه المعتقدات لها تأثيرات سياسية بالغة الأهمية، مثل الاعتقاد بأن دعم اليهود وإسرائيل يجلب البركات، استناداً إلى “عهد الله لإبراهيم” في سفر التكوين.
تُعدُّ نيجيريا -أكثر البلُدان الأفريقية كثافةً بالسكان- مثالاً بارزاً لنمو الحركة الخمسينية في أفريقيا، حيث تأثير قادة دينيين مثل كريس أوياخيلومي، تي بي جوشوا، وإينوخ أديبويه، يمتد عالمياً. هؤلاء القادة، الذين يجذبون ملايين المتابعين، قد زاروا إسرائيل ونقلوا تجاربهم عبر وسائل الإعلام. حتى إن بعضهم شغل مناصب رفيعة في الدولة، مثل الرئيس النيجيري السابق غودلوك جوناثان، الذي كان له دور محوري في التصويت على قرارات تتعلق بإسرائيل في مجلس الأمن الدولي.
وعلى نحو نيجيريا، دولة أوغندا، حيث تُقام دوريًا “مؤتمرات التوبة” لدعم إسرائيل. هذه المؤتمرات تجمع ضباطًا ووزراء أوغنديين مسيحيين مع دبلوماسيين إسرائيليين، وتتخللها لحظات بكاء حيث يُطالب المشاركون العفو من اليهود عن الأفعال التي ارتكبتْ في عهد الرئيس الأُوغندي المسلم عيدي أمين، الذي قطع العلاقات مع إسرائيل وسعى لعزلتها.
وفي غانا أيضًا، يتجلى النفوذ الديني بشكل بارز، حيث الرئيس نانا أكوفو أدو، وهو من المنتمين للخمسينية، يُظهر دعمًا قويًا لإسرائيل. في عام 2018، أعلن عن خطط لبناء كاتدرائية وطنية متعددة الطوائف في غانا، وتم استيراد الحجر الأساس للمشروع من القدس المحتلة، وقدمته السفيرة الإسرائيلية شاني كوبر زوبيدا، كهدية ذات طاقة روحانية مميزة، تعبيرًا عن مستوى الترابط الروحي والسياسي بين غانا وإسرائيل.
(٤)
ختامًا، إنّ هذه الأنماط من التأثير الأمني، الديني، والمالي، ليست فقط مظهرًا من مظاهر التطبيع مع إسرائيل أفريقيًا، بل تمثل أيضًا تطبيعًا مع العنف وتبريرًا له، خاصةً في مواجهة الأحداث الأخيرة في غزة. وفي تأكيدٍ صارخٍ على استغلال الدين لصالح التأييد لإسرائيل، ما قاله القس النيجيري إينوخ أديبويه، خلال زيارته للمستوطنات الإسرائيلية، معتبرًا بأن “المشاكل بين اليهود والعالم تنبع من كونهم مفضلين لدى الله، مما يجلب لهم عداء الشيطان”، في إشارةٍ منه إلى خصومتهم مع المسلمين الفلسطينيين.
وبعد ثلاثة أشهر من اندلاع العدوان الراهن على غزة، نشرت صحيفة “أفريكا ريبورت” تقريرًا يفيد بأن الشباب المنتمين لهذه الكنائس يُظهرون استعدادًا للسفر إلى إسرائيل للمشاركة في حربها ضد ما يسمونهم “أعداء الشعب المُفضل لدى الله”. ما يُظهر أن تبرير العنف قد تجاوز السياسة ليصل إلى الفعل المباشر، وهو ما قد يكون له تأثيرات أخطر وأعمق من تلك المرتبطة بالتطبيع العربي. ففي حين يبرر العرب تطبيعهم بالأمن والمصالح المشتركة، لا يبدو أن هذه التبريرات ستؤدي إلى إرسال أبنائهم للقتال بجانب إسرائيل. لكن في المقابل؛ تُطالب الكنائس الخمسينية أتباعها بالمشاركة مؤكدين أن ذلك سيجلب لهم البركات الإلهية.
إذن، مواقف الكنائس الخمسينية، التي تدافع عن الحرب الإسرائيلية بشراسة، تُبِيْنُ لنا أن تبرير العنف يمكن أن يتجاوز مجرد التطبيع إلى تبنيه كموقف أخلاقي مستند إلى مفاهيم دينية مشوهة، ما يؤدي إلى دعم ضمني لأعمال قد تصل إلى حد الإبادة الجماعية، وربما المشاركة فيها يومًا.
انتهى،،،