سياسة

لمحات اجتماعية من الواقع السوري

مارس 11, 2025

لمحات اجتماعية من الواقع السوري

هزت الأحداث الدموية الأخيرة في الساحل السوري، ضمير السوريين وطرحت أسئلة واستفسارات وشجون وتساؤلات وخوف من المجهول، في غياب تام لمحاولة فهم الأمور من وجهة نظر اجتماعية نوعاً ما، نستطيع أن نقول إنها ومضات أو أسئلة لا بد أنها راودت فكر أيّ سوري يحاول البحث عن إجابات أكثر عمقاً وأكثر جذرية للحالة السوري.


“ليش عم يصوروا”

  

من اللافت للانتباه في أثناء متابعة الأحداث الأخيرة في محافظتي اللاذقية وطرطوس، والتي خلفت مئات الضحايا من المدنيين وقوات الأمن وفلول النظام البائد، خاصة ما طرحته تلك الأحداث من جدل ونقاش للسوريين على وسائل التواصل الاجتماعي بالذات منصة فيسبوك وعلى مجموعات الواتساب، جدل أدّى إلى انقسام لم يعد بالإمكان التغاضي عنه أو نفيه، وفي خضم كل تلك الأجواء المشحونة بالتوتر، بدت مقولة “ليش عم يصوروا” والتي استخدمها بعض المعلقين على الفيديوهات، التي كانت توثق انتهاكات ترقى إلى مستوى جرائم حرب، قام بتصويرها عناصر من الفصائل الغير منضبطة التي دخلت على خط القتال. تحمل العبارة كم من الاستنكار يدفع المراقب للسؤال هل المشكلة في التصوير أم المشكلة بالجرائم نفسها.


 هل يجوز فعلاً أن نتغاضى عن هذه الجرائم إذا ما كانت غير موثقة، بادّعاء أنها جرائم لا تعنينا، ولئلا تسبب للنظام الجديد الحرج على المستوى الدولي أو حتى تدين ثورة الشعب السوري والتي يخشى جمهورها فعلاً تنميطها من قبل الخارج سواء كان عربياً أو دولياً بأنها تحمل في طياتها الموت والقتل، أميل إلى أن أكون أكثر إيجابية رغم قتامة المشهد لأقول إن هناك مشكلة في التعبير، ففي ذروة التجييش الطائفي الأخير والذي أصبح كسيل جارف يغرق وسائل التواصل الاجتماعي، خفتت الأصوات التي كانت تدعو إلى دولة مدنية أو قيادة جماعية لسوريا أو الانفتاح السياسي على جميع المكونات، بمقابل موجة عاتية تدعو إلى الإبادة! مما ذكّرنا بالشرخ الاجتماعي الذي حصل بداية الثورة عام 2011 الناجم عن المواقف السياسية للسوريين اتجاه النظام والثوار، مما جعل هذا الجدل والانقسام بين تأييد النظام والثورة يدخلان كل بيت سوري تقريباً، وتكرر القطيعة بين السوريين اجتماعياً بناءً على تلك المواقف.


 أمام تغول التجييش الطائفي على وسائل التواصل، الذي وصل إلى شتم وتخوين كل من يحاول رأب الصدع، أو أن يدافع عن المدنيين، في سلوك ترهيبي من شريحة واسعة من جمهور الثورة، لم يبقَ أمام بعض هذه الأصوات المعارضة لما يجري، سوى استنكار تصوير الانتهاكات ونشرها على وسائل التواصل، من قبل الجناة أنفسهم، وهو استنكار يحمل ضمنياً رفضاً خافتاً لهذه الانتهاكات، متجنباُ مواجهة مباشرة مع المحرضين، الذين استفادوا من مأساوية مشاهد مقتل عناصر الأمن العام.


فصائل لا هوية لها 


 ظهرت لاحقاً تسجيلات مصورة لمقاتلين من قوات الأمن العام، ادّعوا فيها أن الانتهاكات التي حصلت في الساحل السوري، والتي استهدفت المدنيين على أساس طائفي قام بها فصيلا “الحمزات والعمشات” بشكل رئيسي، إذ يقصد هذا المقاتل فرقتي “الحمزة” و”السلطان سليمان شاه”، وهما جماعتان عسكريتان نشطتا في شمال سوريا وقد فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على هذين الفصيلين على خلفية انتهاكات خطيرة في منطقة عفرين.


وقد كان محمد جاسم أبو عمشة مثار جدل وأحياناً سخرية من جمهور الثورة السورية، فقد كانت تصريحاته ومنشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي يغلب عليها الهزل وعدم الجدية، إضافة إلى أن الرجل يتنقل إعلامياً ما بين ثوري يقاتل من أجل الحرية بشكل ارتجالي و شعبوي، إلى شيخ عشيرة تارة، وإلى صدامي خصوصاً مع انتشار أغنية شهيرة من أيام الحرب العراقية الإيرانية ثم حُوّرت الأغنية وعُدلت كلماتها لتكون على مقاسه، وانتشرت على مواقع التواصل كالنار بالهشيم. وقد كانت كراهية أبي عمشة للمكون السوري الكردي فاقعة، أما الجماعة العسكرية التي يترأسها فهي تتمحور حول شخص أبو عمشة نفسه، بدون أي مشروع سياسي، فيما يبدو للمراقب أن الغاية الأهم بالنسبة له هو بقاء فصيله واستمرار اقتصاد الحرب الخاص به.


تمت ترقية محمد جاسم المعروف بأبي عمشة إلى رتبة عليا بعد التحرير، من قبل وزارة الدفاع للحكومة المؤقتة، وعُين قائداً للفرقة ٢٥ في الجيش السوري الجديد، بعد انضمامه المفترض لقوات وزارة الدفاع السورية، لنجد لاحقاً أن اسمه واسم فصيله الذي يرتبط به مباشرة من حيث الاسم (العمشات) والمستخدم شعبياً على نطاق واسع، بينما تحتاج للبحث لتعرف اسمه الرسمي (سليمان شاه) في قلب أزمة الساحل الأخيرة، وكان من المفترض أن يكون جزءاً من الجيش السوري الجديد، بحيث لا نسمع مجدداً بأسماء فصائل بعينها، مما يجعلنا نعتقد أن إنشاء الجيش الجديد يحتاج إلى ما هو أكثر من دمج الفصائل على وجه السرعة في جسم عسكري واحد.


يمثل أبو عمشة والفصائل التي دخلت معه، نمطاً من شعبوية سياسية واجتماعية وعسكرية حتى، فهم مقاتلون ليس لديهم أي ضوابط أو مدونة سلوك، ظهروا في فيديوهات صوروها بأنفسهم يقتلون مدنيين عزل بدم بارد وبأسلوب هزلي، مما يجعلنا نخشى حقيقة من فصائل أقل ما يقال عنها أنها غير منضبطة، أصبحت على عجل جزءاً من وزارة الدفاع، وأنيطت بها مهمات تبدو كبيرة عليها وفضفاضة أحياناً، هذه الموجة من الشعبوية قادمة من مناطق ريفية وعشائرية، ويبدو أن ذلك سوف يشكل عبئاً على الدولة الجديدة، التي تجد صعوبات جمة في التعامل مع مكونات سورية أخرى ودمجها سياسياً في الدولة.


المجتمع السوري مجتمع وافر التمايزات الاجتماعية والعرقية والطائفية، وهي مصدر غنى إذا رأينا هذا التنوع من وجهة نظر من يريد التعايش تحت مظلة دولة جامعة وراعية مع الاعتراف بهذا التنوع، بما فيه من تحديات الانفتاح على الآخر. ونقول الذي نقوله ليس ترفاً بل يبدو الجانب الآخر أي الانغلاق والشحن الطائفي هو الترف بعينه بالنظر إلى الفاتورة الضخمة الناجمة عنه.

شارك

مقالات ذات صلة