آراء
بصوت أبو أسامة، الرجل الذي دفع حياته ثمنا لثورةٍ سرقت على مرأى الجميع ومسامعهم، بل وعلى أكتاف بعض المنتسبين إليها، فكان عداؤهم لمن يختلفون معهم فكريا، أكبر من عداوة من ضربوهم بالرصاص الحي، وكان قربهم ممن سيسجنونهم فيما بعد حين يطغون على الجميع، أشد من الذين جاوروهم المنصة والهتاف والخيمة، فرحل الرجل شهيدًا لذلكم كله، للمؤامرات العسكرية المقيتة، والمراهقات الثورانية الحمقاء، حتى حمل الثوار القدامى الضباط القدامى على أكتافهم، مواجهين رجلًا نُصِّب في ميدان التحرير، راسمين مشهدا عبثيا كاملا، تعلو فيه تصفية الحسابات، وكره الأيدولوجيات، على أي صوت عاقل، يقول: “إوعوا الثورة تتسرق منكم”!
لسنا بمقام تُسرد فيها الوجيعة المصرية، والفجيعة الأممية في خاصرة القاهرة، وإنما في ثورةٍ أخرى، دفع فيها السوريون كل ما يملكون، وما لا يملكون، أبدانهم التي ملكوها، وأرواحهم التي سكنتهم، وأحبابهم الذين لم يملكوا حبهم، وإنما ذابوا فيهم عشقا، ففتك الظالمون بالعاشق والمعشوق، واجتمع المجرمون السفاحون مصاصو الدماء من الداخل والخارج، من الأرض والسماء، من القصير والقلمون والزبداني، من اللاذقية وطرطوس، من البحر والجو، من كل مدخل ومخرج، ينهمرون على الشعب المضرج بدمائه، بالبراميل المفتجرة والصواريخ المطننة والأسلحة الكيماوية، ينالون منهم في تدمر وصيدنايا والمزة وفرع فلسطين، باسم فلسطين وطريق القدس، فيسومونهم سوء العذاب، ثم يلقون بهم في مقابر جماعية ابتلعت نحو ربع مليون سوري، على مدار 15 عاما، سبقتها نحو أربعة عقود أخرى، من حكم الملعونين معًا!
ثم بعد ذلك كله، بعد الطريق الطويل المقطوع من دمشق وحمص وحلب وحماة إلى إدلب، وخارجها في بحار العالم المرة، ورحلاتها إلى الآخرة، ثم العودة إيابًا من إدلب إلى حلب وحماة وحمص ودمشق، فوق نهرٍ جارٍ نازف لمليون إنسان بريء، هم أهلهم وإخوانهم، الذين حقق الله بفضله وبغيرته على دمائهم الكريمة معجزته، وسقط الساقط الأكبر، وسقطت من حوله البيادق التي حاولت تحصينه منذ عهد الثورة، وتركت جبهاتها الأصلية تخترق وتنتهك وتنهك وتُفجر بينما يرتعون في بلاد السوريين كأنه لا صاحب لها، وسقطت القوى الإقليمية السافلة التي جرعت السوريين ما تزعم أنها تحارب “إسرائيل” لتجريعها الفلسطينيين مثله، فهاهي ترتكب الشيء ونقيضه، وترتكب جرائم بفظاعة ما تتهم به عدوها اللدود، ليتكشف أمام الناس أن العدو الحقيقي لهؤلاء السفلة كان الشعب الشريد لا الكيان المارق!
ووصل السوريون إلى ما وصلوا، من أول ساعات يتنفسون فيها من دون سرطان الأسد وشذاذه، وأول أسابيع من دون صيدنايا ومسالخها، وأول أشهر من دون المحتلين الدخلاء وميليشياتهم التي لا تشبه أي شيء في البلاد، وتتقيؤهم سوريا منذ سنوات حتى تهتكت أمعاؤها، ثم بعد ذلك كله، وبعد عفوٍ شمل الجميع، استعدادًا لانتفائه عن المجرمين، يعاجل المجرمون العافين عنهم، ويباغت الأنجاس الأطهارَ البررة، ويغدر الشياطين بالصالحين المصلحين الغر الميامين أصحاب الوجوه المتوضئة، الشبان الأحداث من أديم الأرض وطينها، ومن طول البلاد وعرضها، حتى شردوا بهم، ومثلوا بجثثهم، وأحرقوهم في عرباتهم وجبهاتهم، ودفنوهم في مقابر جماعية من باب ممارسة هواية انقطعوا عنها منذ شهرين فقط.
ثم حين تفور الدماء في العروق، وينادَى حي على القصاص، ويتجه الأهل لإنقاذ فلذات أكبادهم الذين صمدوا خمس عشرة سنة من الاحتلال الأسدي والإيراني والروسي والحزبلي، ثم يُقتلون بأيدي البقايا والفلول، شيء يكاد يفتك بالعقول ويجن منه جنونهم، والشيء الذي بدافع ثأر خمسين سنة، قد تقع فيه تجاوزات لا مبرر لها ولا دفاع عنها، لكنها على كل حال لن تقتل مليون إنسان، ولن تحرق أربعين ألفا كما كان في حماة، ولن تدفن الآلاف في ليلة واحدة كالخراف، ولن تصيب العشرات حتى، ثم الأهم أن المتجاوزين لن يفلتوا من العقاب، لأنهم بالفعل أخطؤوا ولو كانوا مدفوعين بالثأر، ثم بعد ذلك كله، تنقلب الآية، وترميني بالتي هي الداءُ، وترميني بدائها وتنسل، وتفعل فعل التي تلهيك ثم تجيب اللي فيها فيك!
فتجد فجأةً جيوشا مجيشة على مواقع التواصل، تبث ملايين الشائعات في ساعات قليلة، وتعمل لجان الحشد الإعلامي الداخلية في أروقة الأحزاب المنهزمة والدول المتقهقرة، والأدوات الممرغ بوجوه أمها التراب في أودية كثيرة، لتهاجم السوريين بوابل من الأخبار الكاذبة، والفيديوهات المزيفة، وأحداث التصفية التي قد يكونوا هم أنفسهم مرتكبيها، ليضفوا مسحةَ المسكنَة والتباكي والتلاطم وشعور المظلومية والاستحقافية على الحدث، مجاوزين فكرةَ أنهم الذين غدروا، وأنهم من يستحقون التنكيل بهم، بوجه حق، ودون عدوان على من لم يعتدِ.
ومع تلك الجوقة المدلسة والنائحة المستأجرة، تنطلق أفواج من الثائرين المباعين، أصحاب الولاءات لعداء كل ما نبت له لحية وشارب، جاهزين بالتهم المزيفة، يرمونها بالباطل على المحروقين أحياءً، يتهمونهم دون أي سند حقيقي بارتكاب المجازر، بل فجأةً وفي يوم وليلة يرونهم كما يرون بشار الأسد! يا إلهي، وسبحان الله! وفجأةً أخرى، يطالبونهم بترك الحكم! في لعبةٍ ذميمة ساذجة، تدعي الإنسانية، وتبطن الاحتقار والفوقية، ضد الذين حرروا البلاد بلحمهم الحيّ، ويحاولون حمايتها باللحم ذاته أيضًا، من صميم قلوبهم وأكبادهم!
لا أرى الأحداث هذه الأيام، على كل ما فيها من مشاهد مختلطة، سوى بخلفية صوتية ترنّ في أعمق نقطة بوجداني، وتهزني هزا، وتكاد تقتلع مسامعي من أماكنها، وكأنه ينادي علينا من السماء، ذلك الذي تلحف ذات يوم وحده بعلم الثورة السورية، وذلك الذي ناصرها يوم عز نصيرها، وقال من قلب الصالة المغطاة بالقاهرة: “لبيك يا سوريا”، اليوم يناديها مجددًا، بصوتٍ جهوري سماوي باكٍ، وسبابة تهتز في خوفٍ كخوف الأب على الأبناء، وهو يكرر التحذير نفسه لمرةٍ أخرى، ولكن بتعويل على أمل أكبر هذه المرة، وقد كبر الأولاد بما فيه الكفاية: “إوعوا الثورة تتسرق منكم، بأي حجة، الحجج كتير، والسحرة كتير، والتحدي كبير، وأنتم قادرين تواجهوا هذا”.. مجددًا: إوعوا الثورة تتسرق منكم!