آراء

العنف سلوكاً: عودة فلول نظام بشار الأسد إلى جذورهم

مارس 9, 2025

العنف سلوكاً: عودة فلول نظام بشار الأسد إلى جذورهم

في أعقاب هروب رأس النظام السوري بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، برزت تخوفات مثيرة للاهتمام والقلق على حد سواء: عودة العناصر التابعة للنظام إلى ممارسة العنف وإثارة الفوضى. هؤلاء الأفراد، الذين قضوا عقوداً في بناء خبراتهم وتجاربهم في قمع الثورة وإخماد أي صوت معارض، وجدوا أنفسهم عاجزين عن امتهان أي شيء آخر غير العنف. هذه العودة إلى الجذور ليست مفاجئة، بل هي نتاج طبيعي لسياق تاريخي واجتماعي وسياسي معقد. في هذا المقال، سنناقش كيف أن هؤلاء الأفراد، الذين يعانون من معضلة الوعي، يعودون إلى ما هم محترفون فيه، وكيف أن هذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها، بل تتكرر في سياقات تاريخية أخرى مثل ألمانيا النازية ورواندا وصربيا.


فالعنف، بالنسبة لعناصر أجهزة القمع التابعة للنظام وشبيحته، ليس مجرد أداة للقمع، بل هو سلوك معتاد. هؤلاء الأفراد قضوا سنوات طويلة في ممارسة وتطوير أساليب القمع والتعذيب والقتل. لقد أصبح العنف جزءاً لا يتجزأ من هويتهم ومصدر رزقهم. بعد سقوط النظام، وجد هؤلاء الأفراد أنفسهم في موقف صعب؛ فهم لا يمتلكون المهارات اللازمة للانخراط في سوق العمل العادي، ولا يمكنهم بسهولة التخلي عن الممارسات التي شكلت حياتهم سنوات. وهم منبوذون من المجتمع ومن الصعب أن يكونوا جزء من جهاز الدولة الجديد، ناهيك عن مسار العدالة والمحاسبة الذي سينهي بهم إلى السجن أو العزل السياسي والمهني.


هذه الخبرة المتراكمة في العنف تجعل من الصعب عليهم التكيف مع الواقع الجديد. فهم يعلمون أن خصومهم، سواء من المعارضة السورية أو المجتمع الدولي، على دراية تامة بماضيهم الدموي. أحد العناصر الرئيسية التي تدفع هؤلاء الأفراد إلى العودة إلى العنف هو معضلة الوعي. هذا الوعي بمصيرهم المحتوم في مواجهة العدالة يجعلهم أكثر تمسكاً بمهنتهم الوحيدة: العنف. إنهم يعلمون أن أي محاولة للاندماج في المجتمع ستواجه بالنكران والمقاومة، وبالتالي فإن اللجوء إلى العنف يصبح الخيار الوحيد المتاح لهم.


هذا التحرك ليس بغريب في مثل هذه السياقات. ففي أعقاب الانتصار على النازية، واجهت قوات الحلفاء مقاومة مسلحة من بعض العناصر المتبقية من النظام النازي الذين رفضوا تسليم أنفسهم للعدالة. هؤلاء الأفراد، الذين كانوا جزءاً من الأجهزة الأمنية والعسكرية النازية، مثل الجستابو (الشرطة السرية النازية) وإس إس (قوات النخبة النازية)، كانوا يعلمون أن مصيرهم سيكون المحاكمة والإعدام أو السجن فترات طويلة إذا قُبض عليهم. لذلك، قرر بعضهم الاختباء والانخراط في مقاومة مسلحة ضد قوات الحلفاء.


في بعض القرى والبلدات الألمانية، وخاصة في المناطق النائية، واجهت قوات الحلفاء مجموعات مسلحة من النازيين السابقين الذين رفضوا الاستسلام. هؤلاء الأفراد استخدموا تكتيكات حرب العصابات، مثل الهجمات الخاطفة وتفجير الجسور والطرق، لإعاقة تقدم قوات الحلفاء. كانت هذه المقاومة تعبيراً عن رفضهم قبول الهزيمة وخوفهم من المحاسبة على جرائمهم.


بعض العناصر النازية السابقة، وخاصة من قوات إس إس، اختفوا عن الأنظار بعد الحرب. بعضهم هرب إلى دول أخرى في أمريكا الجنوبية، مثل الأرجنتين والبرازيل، ومنهم من انتهى بهم المطاف في سوريا مثل الويس برونر الذي استعان به حافظ الأسد لبناء القدرات الاستخباراتية ومهارات انتزاع الاعترافات. حدث ذلك كله فيما يعرف بشبكات هروب النازية المعروفة باسم خطوط الفئران. هؤلاء الأفراد استمروا في العيش تحت أسماء مستعارة، محاولين تجنب العدالة الدولية.


أما في رواندا، بعد انتهاء الإبادة الجماعية، فر العديد من الأفراد الذين شاركوا في عمليات القتل إلى دول مجاورة مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية. هؤلاء الأفراد، الذين كانوا جزءاً من ميليشيات انتراهاموي (الميليشيات التي نفذت عمليات القتل)، شكلوا مجموعات مسلحة استمرت في تهديد الاستقرار في رواندا والمنطقة بأكملها. لقد كانوا يعلمون أن عودتهم إلى رواندا ستواجه بمحاكمات صارمة، وبالتالي قرروا البقاء في المنفى والانخراط في أنشطة مسلحة. ففي جمهورية الكونغو الديمقراطية، شكل هؤلاء الأفراد مجموعات مسلحة استمرت في شن هجمات على رواندا من أجل إعادة تأسيس النظام الذي سقط بعد الإبادة. هذه المجموعات كانت تعتمد على العنف كوسيلة للبقاء، حيث لم يكن لديهم أي فرصة للاندماج في المجتمع الرواندي الجديد الذي كان يسعى للمصالحة والعدالة.


في صربيا أيضاً، بعد انتهاء حرب البوسنة، واجهت الحكومة ضغوطاً دولية هائلة لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب. العديد من القادة العسكريين والسياسيين الصرب، مثل رادوفان كاراديتش وراتكو ملاديتش، تمت ملاحقتهم من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. ومع ذلك، فإن بعض العناصر التي شاركت في الجرائم، وخاصة من القوات العسكرية والميليشيات الصربية، حاولت مقاومة العدالة والاختفاء عن الأنظار. بعض هؤلاء الأفراد لجؤوا إلى المناطق الريفية في صربيا أو إلى دول أخرى في المنطقة، حيث وجدوا ملاذاً آمناً. هؤلاء الأفراد كانوا يعلمون أن عودتهم إلى البوسنة أو ظهورهم في العلن سيؤدي إلى اعتقالهم ومحاكمتهم، وبالتالي قرروا البقاء في الظل والانخراط في أنشطة سرية واجرامية حيث إن المافيا الصربية ذائعة الصيت لما راكمته من خبرات من تاريخها الاجرامي.


في الختام، فإن ظاهرة العودة إلى العنف سلوكاً في سياقات ما بعد الصراع هي ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد. هؤلاء الأفراد، الذين قضوا سنوات طويلة في تعلم وتطوير أساليب القمع والتعذيب والقتل يجدون أنفسهم عاجزين عن الاندماج في المجتمع الجديد. إن معالجة هذه الظاهرة تتطلب فهماً عميقاً للسياقات التي أدت إلى ظهورها. كما تتطلب جهوداً جادة لمعالجة الأسباب الجذرية للعنف، وتوفير بدائل حقيقية لهؤلاء الأفراد للاندماج في المجتمع. بدون ذلك، فإن العنف سيظل سلوكاً للأفراد في سياقات ما بعد الصراع.


في السنوات التي تلت الحرب، حاولت ألمانيا الغربية إعادة تأهيل بعض العناصر النازية السابقة كجزء من عملية إعادة الإعمار. تم توظيف العديد من المسؤولين النازيين السابقين في الحكومة الجديدة، خاصة في المجالات التي كانت تعاني من نقص في الخبرة، مثل الإدارة والقضاء. هذا القرار أثار جدلاً كبيراً، حيث رأى البعض أنه ضروري لإعادة بناء الدولة، بينما رأى آخرون أنه خيانة لضحايا النازية. في السياق السوري، كما في السياق الألماني، فإن معالجة هذه الظاهرة تتطلب فهماً عميقاً للسياقات التاريخية والاجتماعية التي أوصلت هؤلاء الأشخاص إلى ما هم عليه، بالإضافة إلى جهود جادة تكون جزءاً من مسار عدالة انتقالية متكامل يوفر بدائل حقيقية لهؤلاء الأفراد الذين يظهرون سلوكيات جادة يكونون قد تخلوا فيها عن ماضيهم العنفي للاندماج في المجتمع. بدون ذلك، فإن العنف سيظل سلوكاً للعديد من الأفراد في سياقات ما بعد الصراع.

 

شارك

مقالات ذات صلة