تأملات

الانتصار للنفس (الباب الأعظم لإبليس)

مارس 7, 2025

الانتصار للنفس (الباب الأعظم لإبليس)

“فطوّعت له نفسه قتل أخيه، فقتله”

في رحاب التطويع النفسي نجد أنّ هذه الآية الكريمة تتركز على ثلاثة ثيمات:

الثيمة الأولى: “التطويع”

الثيمة الثانية: “النفس”

الثيمة الثالثة: “المنكر المتمثل هنا بفعل القتل”


وأسأل لماذا التطويع؟ أن تطوّع الشيء يعني أن تدربه أكثر من مرة ليطيعك، ليصبح تحت طاعتك، ويأخذني هذا المعنى إلى الحديد كيف يصهره الحداد ليأخذ في تطويعه كما يحب أن يشكّله كيفما يشاء، ومما يجدر التنويه له أنّ التطويع لا يكون من المرّة الأولى، بمعنى أنّك لا يمكنُ أن تطوع موظفا لديك من أول محاولة وكذلك الحيوانات والطيور، حتى أنّ مدربي السيرك يحتاجون وقتاً طويلاً من أجل أن تطيعهم حيواناتهم وهكذا!

إذاً لا يصبحُ المرء قاتلاً بالصدفة، أو دعني أقول لا يصبح المرء قاتلاً من أول محاولة تطويع حتى، فالنفس تحتاج إلى تهيئتك لتتناسب مع ذلك الفعل الإبليسيّ، لذلك قيل أنّ عدو الإنسان نفسه، ولذلك قال ربنا (قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) ذلك أن النفس غير المزكاة تستطيع أن تفعل كل الخبائث الإبليسية على الأرض، ولذلك قال ربي حبيبي (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) لذلك أنت من تقرر أن تخضع لحكم نفسك أم أن تحكمها، لذلك متى حكمتَ نفسكَ استغنيت، ومتى حكمتكَ نفسُك ذُلِلتْ.

وهذا دليل أنّ الإنسان أيضاً لا يصبح سارقا ولا زانيا ولا مرابياً فجأة ودون مقدمات، تظل النفس بإيعازٍ من إبليس تزيّن له ذلك مرة بعد مرة بعد مرة حتى تتملكه فيطيعها ويفعل ذلك الفعل المخالف لأمر الله عزوجلّ.


ومتى أطاع المرء نفسه فعل الكبائر والمحرمات بسرعة، يقول ربنا ( فقتله) هكذا بسرعة دون أي حواجز حتى لغوية، ببساطة ويُسر، ذلك أن النفس مطواعة وجاهزة لتنفيذ الكبيرة، فهي قد تدربت جيداً على هذا وليس على الفعل فحسب، بل على تقبل الفعل، ذلك أنّه لن يقتل إلا إذا تقبل وانسجم مع فكرة القتل، وأنْ يجعل الله عز وجل أول قتل في التاريخ بين أخ وأخيه فإنه أمر جلل، قد يصدق المرء أن الإنسان يمكن أن يقتل ابن عمه أو صديقه أو أيّ أحد غريب عنه، لكن أن يقتل الأخ أخاه فهذا أمر في منتهى الترويع والقسوة، وكأنّ الله عزّ وجل يريد أن ينوّه لنا إلى كارثية أن تطيع نفسك في المحرمات، إنّها قد تقودك إلى قتل أخيك الذي جئت معه من رحمٍ واحدة


والسؤال الأهم الآن كيف تطوّع النفس صاحبها لفعل المنكرات؟ ولماذا نجحت في تطويع قابيل؟ ولم تنجح في تطويع هابيل؟

هذا يعود إلى موازين الروح والطين فيك، بمعنى لو أتيت بميزان ووضعت روحك في كفة، وجسدك في كفة أي (شهواتك الدنيوية) من سيرجح أكثر؟ إذا رجحت روحك على جسدك فيصعب على النفس تطويعك، وأمّا إن رجح جسدك على روحك، فيسهل تطويعك، لذلك على العبد أن يراقب دائماً ذلك الميزان، وعليه أن يعلم أنَّ التطويع يبدأ من الحسد والاستعلاء، فذلك باب إبليس الأول الذي رفض به السجود لسيدنا آدم عليه السلام، لقد أسسّ إبليس من خلال تلك المشهدية لأيقونته الخاصة في الخطيئة والتي سأسميها ( الانتصار للنفس ) متى وجد المرء فيه انتصاراً لنفسه عند كل شعور بالظلم او بالاقصاء او بالتنمر والخ فإنه يبدأ بفتح الأبواب على التعليم الإبليسي بين قوسين، لأنّ انتصارك لنفسك يتوجب عليك أن تردّ السيئة بالسيئة، أما التعليم الإلهي يخبرك أن ترد السيئة بالحسنة، التعليم الابليسي يقول لك ردّ على الجاهلين ولا تسكت، التعليم الإلهي يقول لك الذين إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، التعليم الإبليسي يقول (تغدى عليهم قبل أن يتعشوا عليك) أما التعليم الإلهي (إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا).


فعلى الإنسان أن يغلق مداخل التطويع الإبليسي لنفسه عبر إغلاق المنفذ الأساسي له وهو (الاستعلاء) والذي يأخذ كثيراً شكل (الانتصار للنفس) وبذلك يستبدل مكره بمكر الله، وتدبيره بتدبير الله، وصوته بصوت الله، ونظره بنظر الله، وبطشه ببطش الله، حتى يتم الله أمراً كان مفعولا، ولا يضيع من ترك أمره لله فالله وليّ الصالحين، ومتى تولاك الله عز وجل فقد نجوت وأصبحت من الذين (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

شارك

مقالات ذات صلة