تأملات

التكافل الاجتماعي: ثقافة تميّزنا!

مارس 6, 2025

التكافل الاجتماعي: ثقافة تميّزنا!

رغم أن التكافل الاجتماعي قيمة تميّز المجتمعات الإسلامية والعربية، إلا أنها قد تندثر بسبب اتباع النموذج الغربي بكل ما يحمل. فما مستقبل التكافل الاجتماعي في حضارتنا؟ ولماذا استبدل العالم هذه القيمة واتجه للفردانية؟


كيف فقد الغرب التكافل؟

في العقود الأخيرة، بدأ العالم الغربي يشهد تحولًا ثقافيًا غير مسبوق، يكمن في اتجاه الناس نحو الفردانية، وهي الفكرة التي تُعلي من شأن “الذات” وتهمّش “المجتمع”. أصبحت القيمة العليا في هذه المجتمعات هي حرية الفرد واستقلاله عن الآخرين، متناسين بذلك الروابط الاجتماعية التي طالما كانت أساسًا لتماسكها. ولذلك انتشرت عبارة “أنت حر ما لم تضر” مثلًا، والتي يتداولها أحيانًا أبناء جلدتنا.

وفي ظل هذا التحول، بدأ المجتمع الغربي يعاني من مشاكل اجتماعية ونفسية لم يعاني منها في الماضي. فقد أظهرت كثير من الدراسات أن نسبة كبيرة من الأشخاص في الدول الغربية يعانون من الوحدة والعزلة الاجتماعية. بل أن من يتصفح مواقع التواصل، تيك توك تحديدًا، يجد سخرية الناس من هذه الظاهرة وانتشارها.

في دراسة أجراها “مركز أبحاث الأسرة في بريطانيا” عام 2020 وجد المركز أن أكثر من 9 مليون شخص في المملكة المتحدة يعانون من العزلة الاجتماعية، وذلك لعدم احتكاكهم بالناس وعدم اعتيادهم على التواصل.

أصبح الفرد في المجتمعات الغربية يواجه تحدياته بمفرده، سواء كان ذلك في ميدان العمل أو في الأزمات الصحية أو حتى الاجتماعية. في هذه المجتمعات، نرى أن الشخص أصبح يُحاكم بناءً على إنجازاته الشخصية وليس على دوره داخل شبكة اجتماعية مترابطة.

في المقابل، كان التكافل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من هوية المجتمعات الإسلامية والعربية على مر التاريخ. لاحظ مثلًا العناية بالفقراء والمحتاجين كجزء من الواجب الأخلاقي والديني. وما كانت المجتمعات الإسلامية لتقبل فكرة العزلة أو الانفصال عن الآخر؛ فقد كانت العلاقات المتبادلة جزءًا من أساسيات الحياة الاجتماعية.


التكافل الاجتماعي في ثقافتنا

إذا كانت الفردانية قد فرضت نفسها على المجتمعات الغربية، فإن الإسلام قد وضع التكافل الاجتماعي في صلب تعاليمه، فقد دعا الإسلام إلى التآزر والتعاون بين أفراد المجتمع، وجعل هذه المفاهيم جزءًا من عبادات المسلم اليومية، سواء من خلال الزكاة أو الصدقة أو الإغاثة. كما أن مفهوم التكافل في الإسلام لا يقتصر على المال فقط، بل يمتد ليشمل جميع أشكال الدعم: المعنوي، النفسي، والاجتماعي. والمؤمن يؤجر على هذا التكافل.

ربما تبرز مكانة التكافل الاجتماعي في الحديث النبوي الشريف: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”.

وقد أثر التكافل الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا. كانت المجتمعات الإسلامية على مر العصور نموذجًا للتعاون والتكافل، خاصة في الأزمات، إذ كان المسلمون يحرصون على توزيع أموال الزكاة، وإقامة الولائم، ودعم الفقراء. وهذا لم يكن محصورًا في فترات معينة، بل كان جزءًا من حياة المسلمين اليومية.

وبينما كان التكافل الاجتماعي في الغرب يتحول نحو الفردية، بقي في المجتمعات العربية والإسلامية بمثابة الثقافة التي تؤكد على أن الفرد لا يعيش في جزيرة معزولة، بل هو جزء من نسيج اجتماعي يشترك في رعايته ورفاهيته، ونرجو أن يستمر كذلك.


رمضان فرصة لتطبيق التكافل

يتجسد التكافل الاجتماعي في رمضان بأبهى صورة، حيث يصبح هذا الشهر الكريم فرصة ذهبية لتعزيز الروابط الإنسانية في المجتمع. هو شهر العطاء، حيث يزداد الإحساس بالمحتاجين، ويعبر المسلمون عن محبتهم ورحمتهم تجاه الآخرين من خلال توزيع الوجبات على الفقراء، وتنظيم موائد الرحمن، والمشاركة في الحملات الخيرية.

تاريخيًا، كانت العائلات تفتح أبوابها لاستقبال الزائرين والمحتاجين، وتُقدّم لهم الطعام والشراب، ليتحول الشهر الكريم إلى موسم من التضامن بين أفراد المجتمع. وفي العصر الحديث، تعد الحملات الخيرية الجماعية مثل جمع التبرعات للأيتام والفقراء أو تقديم المساعدات العينية إلى المناطق المحتاجة، صورة حية للتكافل الاجتماعي الذي لا يزال يشكل سمة بارزة في المجتمعات الإسلامية.

وبذلك يصبح رمضان ليس فقط وقتًا للصيام والتقوى، بل فرصة لتعزيز الوعي الاجتماعي وتعميق ثقافة التكافل بين أفراد المجتمع.


مستقبل التكافل الاجتماعي

في الوقت الذي تعيش فيه المجتمعات العربية والإسلامية تحديات كبيرة مثل الأزمات الاقتصادية، والبطالة، والظروف السياسية المعقدة، يظل التكافل الاجتماعي أحد الأسلحة الأكثر قوة لمواجهة هذه التحديات. ولكن في الوقت ذاته، هناك العديد من التحديات التي قد تواجه مستقبل التكافل، أهمها تزايد الفردانية والابتعاد عن قيم التعاون المجتمعي.

ويجب أن نتذكر أن التكافل الاجتماعي ليس مجرد استجابة لحالة طارئة أو ظرف استثنائي، بل هو ضرورة لبناء مجتمع قوي ومتماسك قادر على الصمود أمام التحديات المستقبلية. وبدون التضامن، يصبح المجتمع عرضة للانقسام والتمزق، وتزداد الفجوات بين فئاته.

خاتمة


تقليد الغرب، واتباع كل ما يصدر منه، سيؤدي إلى اندثار التكافل الاجتماعي في مجتمعاتنا، رغم أنها ثقافة تميّزنا. ولا شك أن الفردانية لها محاسنها، إلا أن المساوئ أكبر، وإذا كانت الفردانية قد سادت في الغرب، فإن المجتمعات العربية والإسلامية يجب أن تظل وفية لتقاليدها العريقة في التكافل والتعاون.

شارك

مقالات ذات صلة