مدونات
للكاتب: أحمد فؤاد
كعادته، يأتي رمضان ليروينا بعد ظمأ، ويريحنا بعد عناء، ويسعدنا بعد طول شقاء. يأتي غيث رمضان ليسقي أرض قلوبنا المجدبة، فتثمر من كل صلاح بهيج، يأتي ليخلصنا من ذنوبنا -بكرم من الله- وليطهرنا من أدران قلوبنا، وليسري عن همومنا. يأتي نجماً في ليلٍ بهيم، يلتمس به الحيارى الطريق، ويُستدل به التائهون على الدرب.
ولأن الكثيرين تساءلوا: كيف نتجاوز العقبات التي يضعها شياطين الجن قبل أن يصفدوا، أو التحديات والمغريات التي يتفنن فيها شياطين الإنس دون أن ييأسوا؟ وكيف نستشعر متعته، ونذوق حلاوته، ونسعد ببهجته دون أن نتوقف في وسط الطريق أو أن ينفد وقود عزيمتنا في نهايته؟ أردت أن أضع أمامكم نقاطًا بسيطة كمحفز كبير وجرس خطير، كلمات يمكن أن تعتبرها دعوة مربحة أو تحذيرات منقذة.
إن رمضان فرصة عظيمة لتجديد العهد مع الله؛ فمزق دفاتر ذنوبك القديمة، وسجل بأعمالك كتبًا من الحسنات تمحو ما سلف من خطايا وسيئات. اجلس مع نفسك جلسة توبة وندم، ونقِّ قلبك؛ فالجنة التي تُفتح أبوابها في رمضان تذكرتها -قبل العمل الصالح- قلبٌ سليم: “إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ“. فطهر قلبك بمطهرات الاستغفار، وعقّمه بالذكر، وحصّنه بالدعاء. احذر أن تصوم رمضان وبينك وبين زيد أو عمرو أي ضغينة أو حقد، واحذر أن ترتب البيت وتزين الشارع وتترك قلبك غير نظيف، كما قال الرافعي: “لا تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك“. علق في قلبك زينة التسامح والعفو، وأنوار الصفح والحلم.
احذر شوائب الذنوب وأمراض القلوب؛ فسباقنا سباق قلوب قبل أن يكون سباق أعمال وأفعال. فما سبق أبو بكر الصحابة، كما أوضح الرسول، إلا بشيء وقر في قلبه؛ فلنجعل قلوبنا تسبق القوم، وترجو لهم اللحاق. ولا تنطلق إلى الله وحدك، يا صديقي، فدونك أهلك، اجعلهم يتسابقون إلى الجنة معك. اجمع أهلك على الصلاة والقرآن، وانشغلوا فيما يرضي الله من مسابقات ثقافية ودينية، تدارسوا سيرة الحبيب، تواصلوا هاتفيًا مع البعيد والقريب، صِلوا أرحامكم التي قصرتم في حقهم تمهيدًا للتواصل العائلي بعد نهاية الأزمة. تنافسوا في الذكر والدعاء والاستغفار، اجمعوا صدقات بيتكم لتصل إلى المتعففين الذين يمنعهم حياؤهم من السؤال رغم قلة الحيلة. تواصلوا مع أبناء المظلومين وكونوا عونًا لهم، وأبدعوا في الفعاليات المنزلية التي تهون غربة العصر وبعد الديار وفراق الأحباب، وحولوا بيتكم من فصل دراسي أو معسكر انضباطي إلى معسكر إيماني واعتكاف رباني.
فالأسرة الفائزة هي التي تتقرب جميعًا إلى ربها، وهي التي تأخذ بيد المقصر فيها لينافس المشمر والمسابق، والخسران كل الخسران للأسرة التي تتعامل مع رمضان كغيره من الشهور: تنافُسٌ في الكسلِ، وكسلٌ في التّنافسِ.
اعلم -رعاك الله- أن رمضان شهر السّباق والتّنافس والتّميز؛ لذا وجب على كل مؤمن أن يسارعَ إلى الجنة، ويسابق ليدخلَ من البابِ المناسب له. فهذا يتقن صومَه ليدخلَ من باب الريان، وهذا يقف معتصمًا أمام باب التوبة حتى يُفتح له، وهذا سيدخل من باب الصدقة والإحسان، وهذا سيدخل من باب نصرة المرابطين، وهذا سيحيا في ظلال القرآن ليشفع له. فما الباب الذي ستدخل منه؟
والمسارعُ الحقيقي من يسابق إلى جميع الأبواب، وتجده -كالصّدّيق حينما سأل الرسول أصحابه عن أعمال الخير- مُجدًّا واقفًا على كل باب. تميَّز في الذكر أو الدعاء أو القرآن أو القيام أو الصدقة، المهم يا صديقي أن تكون بقلبك هناك: “فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر“. فالفائز الحقيقي هو الذي تراه مسابقًا في الصوم المثالي والصّلاة الخاشعة، والذي يقف على باب التّضرع وشعاره: “لن أبرح حتى أبلغ“.
أما الخاسر فهو من يخسر السباق، أو يقف في وسط التّنافس، فضلًا عن الذي لا تحدّثه نفسه بالسّباق، مكتفيًا بسباقات الدنيا عن سباقات الآخرة. رمضان هدية من الله لعباده المقصرين والمُجدين؛ فمنهم من يعود ويقترب، ومنهم من يستمر ويرتقي.
ولأن الشيطان لا يرضى أن يتركنا شهرًا دون إغواء، فإنه يفوض أولياءه لإدارة شؤون الإفساد. فتسارع شياطين الإنس بإنتاج مسلسلات وملهيات تبعد الناس عن طاعة الله، وتشغلهم عن ذكره، وتنفق عليهم الدول الملايين ليقوموا بدورهم الناجح في الفشل، وكأنهم عزَّ عليهم أن يتركوا الناس شهرًا مع ربهم، الذي يريد قربهم، ويريدون بعدهم: “وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا“.
فابتعد أنت وأهلك عن أعمالهم، وأغلق باب كل فساد، وقلل ما استطعت من الدخول على مواقع التواصل؛ فخُلق الإنسان ضعيفًا. فالخاسر الحقيقي من يضيع أثمن اللحظات في أتفه الأعمال، أو حتى في المباحات التي تشغله عن الطاعات. حدد لنفسك وقتًا بسيطًا تتابع فيه أهم الأخبار، أو تكتب فيه كلمة دعوية، أو تنشر فكرة مجدية، بشرط ألا يزيد انشغالك بوسائل التواصل عن نصف ساعة يوميًا. فرمضان أيام معدودة، وأنفاس محدودة، وما ندري هل سندركه العام المقبل أم لا؟
ولذا، فصُم صيامَ مودعٍ، وادعُ الله أن يتقبل منك ومن المسلمين طاعتهم؛ فالفائز من فاز في رمضان، فاز بالأجر والإحسان، والتغيير والإيمان، فاز بخلوات دامعة، ودمعات خاشعة، وصدقات متقبلة، ودرجات مرتفعة.
والخاسر من استحق دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: “خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له“. جعلنا الله وإياكم من الفائزين.