سياسة

اعتراف النيجر بالإسلام كدين للدولة: هل هو انتصار للهوية أم تهديد للأقليات؟

مارس 6, 2025

اعتراف النيجر بالإسلام كدين للدولة: هل هو انتصار للهوية أم تهديد للأقليات؟

اختتمت في نيامي، أواخر الشهر الماضي، أعمال المؤتمر الوطني لإعادة التأسيس، الذي انطلق في 15 فبراير برئاسة الجنرال عبد الرحمن تشياني، بمشاركة 716 مندوبًا من مختلف أنحاء البلاد. وعلى مدى خمسة أيام، ناقش المؤتمرون ميثاق المرحلة الانتقالية، ليخرجوا بتوصيات مصيرية ستعيد تشكيل المشهد السياسي والدستوري للبلاد.


أوصى المشاركون باعتماد “ميثاق إعادة التأسيس” كوثيقة دستورية، وتحديد مدة المرحلة الانتقالية بـ 60 شهرًا، تبدأ من تاريخ المصادقة عليه، مع تنصيب رئيس المجلس الوطني لحماية الوطن رئيسًا للجمهورية ورئيسًا للدولة، كما أكدت التوصيات على الإبقاء على النظام الجمهوري، مع الاعتراف بأن النيجر دولة موحدة ديمقراطية واجتماعية، على أن يُصاغ دستور جديد مستوحى من القيم والثقافة المحلية.


غير أن النقطة التي أثارت جدلًا واسعًا، داخليًا ودوليًا، خاصةً في الصحف الفرنسية، هي تكريس الإسلام كدين للدولة، مع ضمان حرية الاعتقاد للأديان الأخرى. فمنذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، تبنّت النيجر دستورًا مستلهمًا من النموذج الفرنسي، مما جعلها تُعرَّف كدولة علمانية، دون أي ذكر لدين رسمي، انسجامًا مع مبدأ الفصل بين الدين والدولة. لكن مع تصاعد النزعة الاستقلالية عن فرنسا، خاصة بعد طرد السفير الفرنسي وإغلاق السفارة وقواعدها العسكرية عام 2023، قررت نيامي إعادة الاعتراف بهوية البلاد الدينية، خصوصًا أن نسبة المسلمين فيها تتراوح بين 93-98%، وفق آخر إحصاءات وزارة الداخلية النيجرية.


هذا التحول أثار مخاوف بعض الأقليات المسيحية وأتباع الديانات التقليدية، الذين رأوا في العلمانية ضمانة دستورية لحقوقهم، بينما يعتبره أنصار القرار تصحيحًا لمسار فرضته فرنسا لعقود. ما أثار الجدل الحقيقي بين المؤيدين والمعارضين لهذا القرار ليس مجرد الاعتراف بالإسلام كدين للدولة، بل في الكيفية التي سيتم بها تطبيق هذا المبدأ على أرض الواقع. فالتساؤل المطروح تمحور حول مدى تأثيره على النظام القانوني: هل سيكون الإسلام المرجعية العليا في التشريعات كافة، أم سيقتصر دوره على المسائل الاجتماعية التي تخص المسلمين فقط؟

وإذا كان الأمر كذلك، فهل ستُطبق الأحكام المستمدة منه على جميع المواطنين، بغض النظر عن معتقداتهم، أم سيظل تأثيرها محصورًا ضمن الدائرة الإسلامية؟ هذه الأسئلة الجوهرية تعكس عمق النقاش الدائر في الأوساط السياسية والمجتمعية، حيث تتباين الرؤى بين من يرى في الخطوة تعزيزًا للهوية الوطنية، وبين من يخشى أن يؤدي ذلك إلى تقييد الحريات الدينية أو إقصاء الأقليات من المشهد القانوني والاجتماعي في البلاد.

 

الإسلام والدستور: إشكالية العلاقة بين الدين والحريات

لطالما اعتبرت مسألة الدين والدولة من القضايا المحورية في الدساتير الحديثة، إذ تشكل العلاقة بينهما عاملاً حاسمًا في صياغة هوية الدول وتوجهاتها القانونية والسياسية. ارتأى المعارضون من النخبة المثقفة العلمانية أن إدخال الإسلام في الدستور كدين رسمي قد يؤدي إلى تعقيدات عديدة، فرغم قلة عدد المسيحيين وأتباع الديانات التقليدية الأفريقية، فإن تحويل الإسلام إلى الدين الرسمي قد يثير مخاوف هذه الفئات حول مدى قدرتها على ممارسة شعائرها الدينية بحرية ودون ضغوط قانونية أو اجتماعية.


ومن الأمثلة التي احتجوا عبرها، تجربة السودان في عهد عمر البشير التي تقدم نموذجًا للتحذير من التداعيات المحتملة لمثل هذا التحول. فقد حاول نظام البشير فرض قوانين مستمدة من الشريعة على جميع المواطنين، بما في ذلك المجتمعات المسيحية في الجنوب، وهو ما أدى إلى توترات داخلية ساهمت في نهاية المطاف في انفصال جنوب السودان عام 2011. ورغم أن الدين لم يكن السبب الوحيد لهذا الانفصال، إلا أنه لعب دورًا جوهريًا في تعزيز الشعور بعدم الاندماج والانتماء للدولة المركزية. وفي النيجر، – حسب رأي المعترضين- قد يؤدي وضع مشابه إلى إثارة احتجاجات داخلية، خصوصًا بين الأقليات الدينية، وإلى توتر في العلاقات الخارجية مع الدول الغربية والمنظمات الحقوقية التي قد ترى في ذلك تراجعًا عن مبادئ الحرية الدينية، مما قد يثير مخاوف المستثمرين الأجانب، والعلاقات التجارية مع الدول الغربية.


إلى جانب الانقسامات المحتملة، أثار أيضا – الاعتراف بالإسلام كدين رسمي – تساؤلات حول مدى تأثيره على القوانين والتشريعات في البلاد. إذا تم اتخاذ هذه الخطوة، فقد يُفتح المجال أمام إدخال قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية، مثل فرض قيود على الحريات الفردية فيما يتعلق باللباس، أو منع بيع الكحول، أو فرض قوانين زواج وطلاق إسلامية. وبناءً على هذه المعطيات، ففي نظرهم، من الناحية العملية، يبدو أن الاستمرار في تبني النظام العلماني القائم حاليًا يوفر توازنًا أكثر استدامة، حيث يتيح للنيجر الحفاظ على وحدتها الوطنية، مع ضمان حيادية الدولة في القضايا الدينية، وهو ما قد يكون الحل الأمثل لضمان استقرار البلاد وتطورها.

 

الديمقراطية وإرادة الأغلبية: أين الإشكال؟

في محاولة الإجابة على إشكالياتهم، ومن زاوية التفكير النقدي، فإن مسألة إعلان الإسلام كدين للدولة جاءت بعد تحليلٍ عميقٍ لمدى توافقها مع المجتمع النيجري وهويته. فالسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا: هل يعكس هذا القرار إرادة أغلبية المواطنين؟ الجواب، هو بكل تأكيد: نعم. الأغلبية العظمى من سكان النيجر مسلمون، وتحويل الإسلام إلى دين الدولة مطلبًا شعبيًا عامًا، كما أن فكرة فرض دين رسمي للدولة لا تتعارض مع مبادئ العدالة والمساواة، حيث لا يترتب عليه منح المسلمين امتيازات قانونية على حساب غير المسلمين.


ففي العالم العربي، تُعتبر غالبية الدول ذات مرجعية إسلامية، حيث ينص دستور 18 دولة عربية على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي. ولا يقتصر مفهوم الدين الرسمي على الدول الإسلامية، فهناك عدد من الدول الغربية التي تعترف بالمسيحية كدين رسمي للدولة أو تمنحها مكانة مميزة في دساتيرها. على سبيل المثال، في المملكة المتحدة، تُعد الأنجليكانية الدين الرسمي، حيث يُعتبر الملك “حامي الإيمان” وفقًا للتقاليد الدستورية. في الدنمارك، يتمتع اللوثرية بمكانة دينية رسمية، وينطبق الأمر ذاته على أيسلندا والنرويج التي عدّلت وضعها القانوني عام 2012 لتصبح “دولة تعترف بتراثها المسيحي” دون أن يكون هناك دين رسمي واضح. اليونان تمنح الكنيسة الأرثوذكسية مكانة مميزة في دستورها، بينما تُعد الكاثوليكية دين الدولة في ليختنشتاين، موناكو، ومالطا، كما هو الحال في الفاتيكان التي تُعد الدولة الوحيدة التي تهيمن فيها الكنيسة الكاثوليكية بالكامل على الشؤون السياسية والقانونية.

 

إذن، ليس من الغريب أن ترتبط القيم الثقافية والاجتماعية لأي أمة بدستورها، إذ يمثل الدستور انعكاسًا للهوية الجمعية لشعبها. لكن الجدل الدائر حول الاعتراف بالإسلام كدين للدولة في النيجر ليس في حد ذاته قضية دستورية خالصة، بل يتصل بشكل أعمق بإشكالية مدى توافق الدين مع مبادئ الديمقراطية والمساواة الدينية، ومدى انعكاس ذلك على التشريعات والقوانين.  فقد ورثت الدولة نظامًا سياسيًا علمانيًا منذ استقلالها عن فرنسا، وهو ما انعكس في دستورها الذي يفصل الدين عن الدولة ويضمن حيادية الحكومة تجاه الأديان المختلفة. وهنا أيضًا فإن الإشكالية المطروحة حول تعارض الاعتراف بالإسلام كدين للدولة مع الديمقراطية والحريات تبدو لي متناقضة مع جوهر المفهوم الديمقراطي نفسه. فإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الأغلبية، فإن فرض العلمانية على مجتمع مسلم بالأغلبية الساحقة هو في حد ذاته انتهاك لمبدأ الديمقراطية. فالاستفتاءات والانتخابات، وهي جوهر الممارسة الديمقراطية، تعكس إرادة الأغلبية، وفي حالة النيجر، حيث يشكل المسلمون ما يقارب 98% من السكان، فإن المطالبة بالاعتراف بالإسلام كدين للدولة ليس خروجًا عن الديمقراطية، بل هو تكريس لها. وإن كانت الديمقراطيات الغربية لا تجد غضاضة في تبني الصبغة المسيحية لدساتيرها، فلا يحق لها إنكار ذلك على الدول ذات الأغلبية المسلمة حين تسعى لتثبيت هويتها الدستورية وفق إرادة شعوبها.


في هذا السياق، يبرز تحليل الدكتور محمد المختار الشنقيطي في كتابه الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية: من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي، حيث قارن بين أكثر من 190 دستورًا حول العالم وخلص إلى أن الدين لم يكن يومًا غريبًا عن الدساتير، وليس ظاهرة مقتصرة على الدول ذات الأغلبية المسلمة، بل هو أمر طبيعي يعبّر عن وجدان الشعوب. وهو ما دفعه للقول إن المسلمين لا ينبغي أن يستحوا من دستور يعكس هويتهم، طالما يحقق العدل مع الأقليات، مؤكدًا أن “العلمانية تسعى لفرض التخيير بين الإسلام والحرية، بينما الإسلام نفسه يجمع بينهما”.

 

لكن في الختام، ومن الناحية الدستورية، هناك جانبان لأي دستور: “الجانب المكثف” الذي يحدد المبادئ الأساسية كاللغة والدين، و”الجانب المخفف” المتعلق بالتشريعات والإجراءات. وإذا كانت النيجر قد خطت خطوة في الاتجاه الأول، فإنها لم تحسم موقفها من الثاني، خاصة في قضايا مثل تطبيق الحدود الإسلامية في قضايا السرقة والرشوة وتعاطي الخمر، التي طالبت بها المؤسسة الإسلامية المشاركة في المؤتمر الوطني. وفي المقابل، فإن الطبقة الحاكمة نفسها، والتي لا تزال ترتبط بالنخبة السياسية والاقتصادية المستفيدة من النظام العلماني، قد لا تكون مستعدة للتخلي عن القوانين الوضعية لصالح التشريعات الإسلامية، وهو ما يجعل التحول القانوني الفعلي غير مرجح في المستقبل القريب.

شارك

مقالات ذات صلة