سياسة
1
في صباح التاسع من كانون الأول عام 2024 كانت أصوات الرصاص والاحتفالات والهتافات والهرج والمرج تقتحم أُذنَي فاطمة وأشعة الشمس تقرص خديها وجبينها حتى أيقظتها من أغرب نومة نامتها في حياتها، فتحت عينيها ببطء كأن جبلين على جفنيهما لتجد نفسها مستلقيةً في صندوق خلفي مفتوح لسيارة عسكرية مُتعبَة، متوقفة في وسط ساحة الأمويين بدمشق؛ والناس يحتفلون حولها بسقوط النظام. عندما فتح السائق باب الصندوق ليُسهّل عليها النزول سبقتها الجثة لتسقط أمام بعض المتجمهرين، أطبق الصمت عليهم ثم انطلقت همسات مستغربة خائفة:
– جثة؟!
– يا لطيف شو هاد؟
– الله ينجينا من اللي جاية!
أسرعت فاطمة بالنزول، فبرغم سنواتها الثلاثة والعشرين إلا أن الحصار والقصف والمخيم جعلها ثلاثة وسبعين، دفعتهم بيديها، وصوتها كان طعنة في جسد الضجيج:
– هي أمي هي أمي..
انحنت إلى جسد أمها الهزيل المكفّن المرمي وسط الزحام، محاولة رفعها إليها وهي تقول لهم بصوت جادّ حادٍ جافٍ جدًا:
– لك ما بعرف ليش نحن هون؟!
غرق الجميع بالذهول وتراجعوا، فماذا سيفعلون؟ وسط الخطوات المتراجعة كان هناك مَن تقدّم، رجلٌ خمسيني ملتحٍ انحنى إليها مقاطعًا اللحظات الثقيلة القاسية وقال لها:
– ما تخافي يا بنتي هلأ بطلعك من هون لوين ما بدك.
ثم التفت إلى جهة فيها بعض السيارات وأشار إلى إحداها أن تقترب إليه، كانت السيارة التي أقلّت فاطمة وجثة أمها من ريف حمص قد ابتعدت رويدًا رويدًا، وحلت مكانها سيارة عسكرية أخرى، وضع العناصر الجثة في الصندوق الخلفي، وفتح الخمسيني الباب الأمامي لفاطمة، ثم اتجه نحو السائق وأشار له بالنزول وأخذ مكانه.
بعد أن شغّل السيارة وبدأ يتحرك بتؤدة وسط الزحام، قال لها:
– الحمد لله، مين كان بيحلم أنو نوصل لهون.
لم يلقَ تعليقًا، فتابع:
– بتعرفي أنك بعمر بنتي زهرة تقريبًا.
كان يتكلم وحده، ووجه فاطمة متسمّرٌ لا يلتفت إليه، ولا أذناها، فتابع:
– صرلي شي شهرين ما شفتها، أنا أبو أحمد من بِنّش، شو قصتك يا ابنتي ولوين كنتِ رايحة؟
كانت عينا فاطمة حجران لا يتحركان ولا يرمشان، ولا فيهما ماء يقطر؛ لا تتنهد وكأنها لا تتنفس حين تتكلم، قالت له:
– أنا فاطمة من زملكا، معي أمي، توفت من كم يوم بأطمة، وبدي أدفنها جنب بيتنا.
2
كانت الريح الباردة تحفر أخاديدَ على خدّ فاطمة النحيل، بينما كانت تنبش التراب الرطب بآلة جَرفٍ صغيرة متروكة في المقبرة وأحيانًا بيدها. الليل طويل، والعتمة دامسة، وكأن النجوم يتلصصون على ما تفعل من وراء حجاب، حفرتْ بصمت، بلا دموع، بلا خوف، كأنها تمارس طقسًا مقدسًا لا ينقطع، وقد اعتادته؛ إلى حين اصطدمت أصابعها بالكفن، شهقت.
لم يمرّ وقت طويل منذ أن دفنت أمها هنا، قرب المخيم على أطراف أطمة في ريف إدلب، بين قبور لا شواهد لها، لكن الوعد بقي حيًّا أمامها.
– أمي..
همست كأنها تخشى أن توقظها، سحبت الكفن وما فيه ببطء، رفعته إلى صدرها، كما ترفع الأم رضيعها حين ينام، شعرت بأنها أمّ أمها، وقد مرّ بها هذا الإحساس مرات عدة بعد مرض أمها؛ كان الكفن خفيفًا بشكل مرعب، كأن أمها لم تعد جسدًا بل مجرد ظل تركته الأيام خلفها، حدّثتها وهي تزيل عنها التراب وترفعها من قبرها:
– أمي.. تأخرت شوي لقول لك: سقط النظام، ضبيت كم غراض، ويلا رح نرجع، ما عاد إلنا قعدة هون، ولا حتى بالقبر.
أحكمت لفّ الجثة، شدّت الكفن جيدًا، ثم بحبل ثبّتته على ظهرها، وتقدّمت في الطريق؛ وبيدها كيسٌ يكاد لا يتسع إلا لنفسه، هذا الطريق الذي كانت تتكئ على أمها فيه أثناء قدومهم، وفي بعضه حملتها أمها بسبب إصابتها، ها هي فاطمة تردّ الدين الثقيل لكن لجثة أمها.
لم تكن تعرف كيف ستصل إلى زملكا في الغوطة الشرقية على أطراف دمشق، ولم تكن تدرك أن السيارات ستتكاثر على طريق العودة، هذا لم يكن مهمًا؛ المهم عندها أنها بدأت رحلة الانتقام من التهجير، ومن المخيم، ومن المساعدات، ومن الإصابة، ومن الفقد، وكذلك بدأت رحلة الوفاء، ستعود لتكون وفيّة لأهلها جميعًا.
3
حين نزحت فاطمة وأمها جميلة من الغوطة الشرقية، بالباصات الخضراء، كانتا وحيدتين، ولم يمضِ على عيد ميلادها الخامس عشر سوى بضعة أيام. أبوها وأخوها الصغير فوّاز استُشهدا بالكيماوي عام 2013، ولم يبقَ للأم والبنت إلا ذاكرة ثقيلة، وصورًا مهتزة في هاتف قديم.
مطلع عام 2018 وصلتا إلى المخيم، كانت فاطمة طيلة الطريق تتكئ على أمها، حتى أنها حملتها على ظهرها أحيًانًا، فإصابتها بعد الحملة العسكرية الأخيرة كادت أن تودي بقدمها اليُمنى تحت أحد جدران منزلهم. الخيام متراصة مثل شواهد القبور، القماش المهترئ لا يقي من مطر ولا شمس، والطين يبتلع الأقدام مع كل خطوة. في الليل، كان الصقيع يزحف إلى العظام، ويقضمه بأنياب المرض.
في أول ليلة، جلست جميلة على حافة الخيمة، عيناها معلّقتان في الفراغ، “رح نرجع” قالت بصوت خافت، كأنها تهمس لوعد قديم، “والله لو رجعنا لحالنا راجعين” ونظرت إلى فاطمة؛ لكن العودة تلاشت حتى حلمًا.
في الليل، كانتا تسمعان حكايات عن رجال اختفوا، ونساء بِيعَت مآسيهنّ لمنظمات لم ترد سوى التصوير والرحيل.
“نحن مو مطولين هون”، كانت جميلة تهمس لابنتها، “نحن مؤقتين هون”.
لكن المؤقت استمر سنوات، حتى نسيت كيف كان بيتها، كيف كان الطريق إلى المدرسة، كيف كانت البلاد.
لم يكن لأحد أن يسمع صوتهن، فالمخيم كان يعج بالقصص المتشابهة، كلها ينهشها الحزن، وكانت القذائف، التي لا تفرّق بين خيمة وطفل، بين عجوز وامرأة. مع كل غارة، كانت جميلة تضم فاطمة إلى صدرها، تهمس لها:
“ما رح نبقى هون يا فاطمة، راجعين ع زملكا.. ما في طعم للحياة براتها.. رح نرجع”.
كانت جميلة تُنهك عشر سنوات كل أسبوع، لم تكن تدري أن السرطان كان يتغذى على جسدها، وأحلامها، وصرخاتها في الليل وآهاتها في النهار؛ أما فاطمة فكانت تراقبها وهي تتلاشى، تصبح ظلًا شاحبًا لا يشبه المرأة التي عرفتها، حاولت مرات ومرات أن تسعى لأمها بجرعات ولكن هيهات! فلا النقطة الطبية المتواضعة البعيدة عدة كيلومترات تفيدها حتى بالمسكنات، ولا هي قادرة على الوصول إلى المستشفيات والمعابر البرية لتسجيل أمها والعبور بها إلى تركيا؛ وبرغم ذلك كله فقد كان الموتُ بعيدًا عن زملكا، والدفن بعيدًا عن قبر فوّازها الصغير وأبيه حبيب طفولتها، أصعب عليها من السرطان الذي يأكلها.
وفي الليلة الأخيرة، نهاية عام 2024، كانت جميلة بالكاد تستطيع الكلام:
– اسمعيني يا فاطمة..
– لا تحكي، أمي لا تتعبي حالك!
لكن جميلة ابتسمت! نظرت إلى سقف الخيمة كأنها ترى شيئًا بعيدًا، ثم همست:
– لما بترجعي على زملكا، قولي لهم إني ما رحت، قولي لهم إني بس.. تأخرت بالرجعة.
ثم أغلقت عينيها.
في الصباح، كانت الدنيا غير الدنيا، قوات فصائل الثورة السورية تقترب من مدينة حمص، وقوات النظام تنهار بسرعة لا تصدق، لكن فاطمة لم تكن في تلك الدنيا أبدًا، كانت تحفر قبرًا صغيرًا بجوار المخيم، وترتّبه كأنها أم تحضّر سرير صغيرها، دفنتها بيديها، ثم جلست أمام القبر حتى بدأ مطرٌ خفيف بالهطول.
بعد أيام، قبيل الفجر، وصل الخبر إلى المخيم كعاصفة؛ بعض القاطنين بكوا، بعضهم صرخوا، بعضهم أقعدهم الخبر من هوله فصمتوا، كأنهم غير قادرين على التصديق، لقد سقط النظام.
أما فاطمة، فلم تفكر إلا بشيء واحد: “أمي لازم ترجع، لازم نترك المخيم هلأ”.
4
حين وصلت إلى مشارف حماة، كانت الجثة مربوطة بحبال مشدودة في صندوق الشاحنة؛ لما وضعتها شعرت أنها تحشر عمرًا كاملًا في علبة كبريت، وجدها السائق على طرف الطريق في ريف إدلب، رجلٌ جاوز السبعين بشوقه لمدينته حماة، لم يسألها عن شيء؛ لكن حين وصلوا، التفت إليها وقال:
– الميت تقيل ع الحي يا بنتي، قد ما كان وزنه، إذا بدك مندوّر هون على شي مقبرة!
لم تردّ فاطمة، نزلت إلى جثة أمها، شدت الكفن أكثر، حملتها على ظهرها، شكرت الرجل الذي لم تعرف اسمه، وتابعت مسيرها.
على طريق حماة الدولي كان عليها أن تجد وسيلة أخرى، فاستوقفت شابًا بشاحنة صغيرة.
– لوين؟، سألها.
– ع الشام.. ع زملكا.
نظر إلى الجثة، ثم إلى عينيها، وقال:
– بوصلك على حمص، وليكي.. فيه مقبرة على الطريق إذا بدك.. بعدين بتكملي على زملكا أهون عليك، الله يرحم ميتكم.
تجمدت للحظة، ربما كان على حق؟ زملكا بعيدة، والطريق ما زالت خطرة، وهذا الجسد لم يعد بحاجة إلى مدينة أو بيت؛ لكن وعدها.. وعدها كان أثقل من كل شيء، وأقسى وأخطر عليها.
– أمي قالت لي رح ترجع ع زملكا، وأنا بدي رجعها.
لم يجادلها. أشار لها بالصعود، جلست في صندوق السيارة مع جثة أمها تحضنها كما كانت تفعل في الليالي الباردة، وانطلقت السيارة.
في حمص، كان الغروب يصبغ السماء بلون دموي، والمدينة تحاول النهوض، لكن الركام يثقلها كرابوص يمنعها من الاستيقاظ، أوقف السائق شاحنته قرب مقبرة، ومدّ رأسه من نافذته:
– يا أختي.. أنزل أحفر لك هون؟ والله لسا ما رحت ع بيت أهلي، بس معلش إكرام الميت واجب.
نظرت فاطمة إلى القبور المتراصة، بلا أسماء، بلا تواريخ، بلا أزهار، شعرت برعب داخلها، ربما يكون هذا الخيار الأفضل، قبرٌ بين القبور.
– لا لا.. رح كمل.
هزّ رأسه، لكنها سمعت من كلماته شفقة لم تكن تريدها، قال:
– الوعد قاسي..
لم تجبه.
نزلت على الطريق الواصل بين حمص ودمشق، حاملة الجثة على ظهرها حينًا وحينًا تضعها كطفل أمامها، وجدت شاحنة أخرى متجهة إلى دمشق، كانت متعبة جدًا، فاستلقت قرب الجثة في الصندوق الخلفي، ونامت.
5
كان استيقاظها في ساحة الأمويين كأنه قيامةٌ ليوم حشر، منذ سنين لم تكن وسط تجمّع كهذا، وهي التي كانت غريبة من يوم غادرت غوطتها؛ وجاءتها سيارة أبي أحمد كبراق ينتشلها من بين الجموع المستغربة.
عندما سألها أبو أحمد لم تزد على العبارة التي قالتها له حرفًا واحدًا، كانت شاردة الذهن والبال، عيونها لم تتفحص شوارع دمشق، ليست حزينة وليست سعيدة، لم تكن مندهشة حتى من دخولها المدينةَ الحلمَ بهذه الحالة، كانت لا تبالي إلا بجثة أمها والعودة إلى زملكا.
بعد تجاوز أبي أحمد ساحة العباسيين كان عليه السؤال عن الطريق، فبرغم عمله بوزارة الدفاع بدمشق قبل انشقاقه، إلا أن الطرقات في الغوطة الشرقية تغيرت كثيرًا، حتى على نفسها، فالغوطة لم تعد كما هي، فمن جنة للعشب والأشجار، إلى كومة من الركام والأحجار.
على مدخل حطام زملكا بدأ أبو أحمد يسترق النظر إلى فاطمة، فيجب عليها من الآن أن توجهه.
– بتعرفي من هون الطريق؟
– لسا لقدام.
أجابته دون أن تشير بيدها حتى.
استمر في طريقه، قاطعته قائلة:
– ارجع ارجع، من هون يمكن!
دخلا، ثم خرجا، ثم انعطفا، ثم رجعا، ثم استمرا، طريقٌ يسلمهما لطريق، وركامٌ يغريهما بذكرى منزل عائلة فاطمة، ثم تكتشف فاطمة كذبه، والجهاز اللاسلكي لم يهدأ من التعليمات والتواصلات، وطُلبَ أبو أحمد مرات عدة، حتى وجدا رجلًا يمشي الهوينا، يلف على رأسه كوفيّته ويقلب بصره بين السماء والحجارة.
– السلام عليكم، عمو وين حارة الساقية؟
– وعليكم السلام، لك عمي شو بدك فيها؟ ما بقي فيها حجر على حجر ولا بقي فيها حدا؟
– مو مشكلة، وين؟
– خليكم ماشيين تالت مفرق، امشوا مع الشارع العريض، لينقطع الطريق، من بعد السياج الواقع حارة الساقية.
شكراهُ وانطلقا، حتى إذا وصلا لنقطة العلّام، أوقف أبو أحمد السيارة وهمّ بالنزول، فاجأته فاطمة:
– لا عمو لا تنزل، بدي كون لحالي.. لو سمحت!
– بس بساعدك بحملها.
– لا أبدًا كفيت ووفيت.
نزلت بهدوئها المعتاد، واتجهت نحو صندوق السيارة الخلفي، وأبو أحمد يراقبها، سحبت جثة أمها وشدّت الحبال إلى خصرها ثم تناولتها على ظهرها وتابعت سيرها وحيدة حتى من أغراضها التي نوت أن تأخذها معها من خيمتها البعيدة زمانًا ومكانًا في أطمة. ناداها أبو أحمد وقد سار خلفها:
– طيب خدي هالقنينة وهالكم تمرة.
السماء رمادية والبيوت أشباح، وفاطمة تكاد تلمس الركام بقدميها مخافة أن تؤذيه، ترتاح قليلًا وتشد السير قليلًا، مشت كأنها تقتفي آثارها القديمة، هنا كانت تسير مع أمها وأبيها، لمحت ما يشبه ركام بيتهم، فتوقفت، التقطت أنفاسها، فالاقتراب من الديار مربك حتى لو كانت حطامًا؛ شدّت سيرها حتى وصلت إلى الردم، أهذا ردم بيتهم!، أهنا كانت تلاعب فوّاز، أهنا دفنوا أباها وأخاها من دون شواهد ولا ورود، ثم دفنوا قبل الرحيل عمها وزوجته واثنين من أبنائه، استشهدوا في آخر حملة عسكرية على الغوطة، كيف ستزيل كل هذا الركام لتصل إلى القبور؟ وضعت جثة أمها أمامها وجلست على حجر، وأغمضت عينيها قليلًا، ثم فاجأها صوت باب حديدي يُغلق بشدة فانتفضت واقفة، كانت إحدى السيدات اللواتي بقينَ في المنطقة، القائم من بيتها أقل من المتهدّم لكن واجهته مقبولة، نادتها فاطمة:
– السلام عليكم يا حجة، بدي أسألك هون بيت أبو فواز؟
– مين أنت؟
– فاطمة بنت أبو فواز، أمي جميلة.
قاطعتها الحجة بلهجة معاتبة:
– إيه إيه انتو اللي طعلتوا على المخيم بإدلب؟
– ايه هون بيت..
– الله يصلحها أمك شو كان بدها بهالطلعة والشنشطة.
– الحمد لله على كل حال، بس بدي إسألك هون كان بيتنا؟
– لك يا بنتي ما حدا عرفان وين كان بيته، كلو انهد فوق بعضه، والردم انشال وانحط ألف مرة، وانحط فوقه ألف ردم..
– والقبور؟
جلست الحجة على حجر أمام باب بيتها وتنهدت:
– لك ما ضل قبور، نبشوها النباشة من لما فات النظام ع الغوطة لأن فيها جثث جديدة، وراحت الجثث القديمة بالمعية، ما عم قلك شو كان بدكم بهالطلعة؟
سكتت فاطمة، وكأن القطب المتجمد الشمالي والجنوبي نزلا عليها فجأة، قاطعت ذهولها الحجة:
– صحي وين أمك؟ شو أخبارها.
بذهولٍ وبلا تركيز، وبطرقات قلبها تكاد تكسر أضلاعها أجابت فاطمة:
– ليكها معي.. جبتها أدفنها مع أبي وأخي.
ضربت الحجة بعُكازها الأرض، ثم سألت:
– الله يرحمها ويغفر لها، رجّعتيها ميتة لك بنتي؟ يلا مو بس هي الميتة، كلنا ميتين! بس والله كان إكرام الميت دفنه بأرضه، لسا بدك تزودي قبورنا قبر!
كانت تقصد الحجة “بأرضه” أي بمكان وفاته، لكن فاطمة فهمتها بمعنى آخر تمامًا؛ عادت فاطمة إلى جلستها قرب جثة أمها، ونزلت أول دمعة، بعد أن غشيت عيناها، فقاطعها عواء بعيدٌ يتردد، رفعت فاطمة صوتها وسألت الحجة:
– طيب وين أدفنها هلأ؟
أشاحت نظرها تجاه الباب، لم تكن الحجة هناك! كان الباب مغلقًا كأنه لم يُفتح من قبل، وزادت الغشاوة حتى سقطت أرضًا، لم تشعر إلا بقطرات ماء على وجهها وأبو أحمد يناديها:
– فاطمة، فاطمة، شو صار لك يا بنتي!
– شو في عمو وين أنا؟
– رجعت أطمن عليك.. غلي قلبي.
بعد أن عدّلت جلستها، حاول أبو أحمد أن ينقذها من حيرتها، فقال:
– يا بنتي ما بقي لا بيوت ولا قبور، وبعرف أنو كل واحد منا بهالبلد عنده شي لازم يدفنه، قومي ندوّر على شي مقبرة.