تصمدُ ليلى وتدير المعركة وحدها، بجسدها وعمرها في مواجهة كلّ الصلف والخسّة والجريمة الرسميّة بحق ابنها (في مصر أساسًا، وفي بريطانيا تواطئًا)، تصمدُ إلى الحدّ الذي يحرج الجميع ويثير جنون الجميع وربّما حقدهم، يقول القاتل في القصر: “هي مش هتموت ونخلص؟!” ويقول القاتل في التقرير: “لو ماتت هتبقى ورطة” وبين تمنّى الخلاص منها وخشية التورّط في دمها يتخبّطون، وكان أيسر عليهم وعلى الجميع أن يطبّقوا قانونهم الجائر وينتهى الأمر، حتى حين.
هذه سلطة بدأت بأقصى الجرائم، سلسلة مجازر قتلت فيها المئات -وربّما الآلاف- في مشاهد بثّتها الشاشات ووسائل التواصل، وزجّت بعشرات الآلاف في المعتقلات، غير من ابتلعهم ثقب الاختفاء الأسود دون أن يُعرف لهم مصير، وأممت الحياة كلّها -أو عسكرتها للدقّة- بإعلامها وصحافتها وأحزابها ونقاباتها وحتى سمكها وجمبريها، أشاعت الهلع وجعلت الباقي على قيد الحياة (أيّ حياة ولو في مزبلة، ولو مداسًا بالجزم والبيادات) يشعر بانتصارٍ هائلٍ على الزمن وعلى القدر وعلى الكلّ فقط لأنّه حي.
عرفَ السيسي ديّة العالم، فقتلَ الحوار معه، بلا حقوق إنسان بلا ***، سأقترض منكم عشرات المليارات، وسأردّها لكم في صفقات سلاح وغاز وطاقة وأيّ خردة في مخازنكم، وليدفعها الشعب أو البلد أو حتى إذا اضطررنا نقسّم الخريطة تقسيم أراضي ونعرضها للبيع لكلّ من هبّ ودبّ، وكلّه بثمنه.
والكلّ -بلا استثناء- قبل الصفقة، الأمريكان كالأوروبيّين، سواءًا بسواء، من الرافال للإف 16 لإيني للغواصات، ولينتهِ وجع رأس الإنسان وحقوق الإنسان وحريّة الرأي والتعبير مرّة واحدة وإلى الأبد، إلا إذا ودّ البائعُ أن يُسوّق بضاعة جديدة أو يساوم على التسعيرة، ساعتها فقط يمكن لكليهما أن يُخرجا “الكراسة الصفراء”، ثم يلقونها بأقرب صندوق قمامة فور الاتفاق.
غزّة كشفت الوجوه حقيقيّها من زائفها، ومشاهد السحل والاقتحامات والاعتقالات والطرد من الوظائف والجامعات واقتحامات الحرم الجامعي وقبلها الجسور الجويّة والبحريّة المشاركة في الإبادة، والدفاعات الوقحة عن جرائم العدو في البرلمانات والمحافل الدوليّة والأمميّة، كلّ نسف قابليّة أن يتكلّم أيٌّ من هؤلاء في موضوع المعتقلين والديمقراطيّة ثانيةً، عند الاختبار الحقيقي سقط الكلّ بجدارة، ومازالوا.
هل سألت السلطة نفسها: متى آخر مرّة توافدت وفود شعبيّة وسياسيّة إلى قصر الحكم لتقديم عرائض للمطالبة بشيء، لا سيّما بخصوص معتقل؟ آخر مرّة اجتمع عشرات الآلاف في هذا البلد -علنًا- على أيّ شيء يخصّ شأن سياسي يعرفون أنّه على غير مراد السلطة؟ آخر مرّة توافد العشرات للتظاهر أمام سفارات مصر في الخارج؟ آخر مرّة اجتمع السياسيّون ورؤساء الأحزاب ومرشّحو الرئاسة-الباقي منهم خارج المعتقل- في مشهد واحد؟
آخر مرّة لأشياء كثيرة ممّا انتهى أمره في هذا البلد، وتوقّف بفعل الهزيمة أو الرعب أو حتى الكمون تحيّنًا لفرصة، كلّها تحدث الآن بفعل إضراب ليلى سويف عن الطعام دفاعًا عن حياة وحريّة ابنها علاء، يمكنني القول -بشبه يقين- أنّ علاء خارج السجن على الأقلّ في العامين الأولين لخروجه لن يفعل هذا الأثر، خاصّةً في الداخل.
لم يخرج من المعتقل واحدٌ بلا ثمن، للداخل أو للخارج، لدولة أو لمجموعة ضاغطة، لأصدقاء أو لأعداء، أو حتى لشركة عابرة للجنسيّات، لم يحدث شيء إلا صدىً لأزمة أو رغبةً في مصلحة، وهذا بالضبط هو ما يحدث الآن، ولولا ما تفعله ليلى، لما حرّك ستارمر ولا لامي “مؤخرتيهما”، تمامًا كحال الداخل، هذا ما قرأته ليلى وقررته، ونجحت فيه حتى الآن، بل ويمكنني القول -بوقاحة- أنّها ستنجح في رهانها الأخير بإخراج علاء من المعتقل، ولو ماتت هي، لا قدّر الله.
على السلطة أن تدرك خسارتها المعركة؛ لن يغيّر السجن قناعةً سجين، ولن يُشفي صدر منتقم -ما بالك وهو القاتل؟!- وعليها أن تكتفي بهذا القدر، لأنّ رهان الحافّة ليس مضمونًا في كلّ تجربة، ولعلّ تراكمًا ما تفجّره هذه السيّدة يصدمكم ويصدم الجميع.