أدب

محمد أسد: الطريق إلى مكة

محمد أسد: الطريق إلى مكة

“سيرة مختلفة”

رغم معايشتي لفن السير الذاتية، لم أكتب عن سيرة قريبة جدًّا من قلبي، ربما بسبب تَهيُّبِي عالَم صاحبها، فقد استفدت منه وتعلمت من سيرته كثيرًا، وكانت سيرته مثالًا يَعْلَق في الذهن على مثال حسن الإسلام والاتساق مع المبادئ، السيرة هي “الطريق إلى مكة”.

واحدة من أجمل سير المهتدين إلى الإسلام، نقل فيها “ليوبولد فايس” اليهودي النمساوي قصة اهتدائه إلى الإسلام، وفي ثنايا قصته شهادة على العالَم الذي عاصره والذي لم يعُد موجودًا لتَغيُّر أحوال السياسة والعمران، فهو يحكي عن عالَم الأمس.

وُلِدَ ليوپولد ڤايس لأبوَيْن يهوديَّيْن عامَ 1900م، في الإمبراطورية النمساوية-المجرية، واعتنَق الإسلامَ في عام 1926م، فغيَّر اسمَه إلى «محمد أسَد»، ليُصبحَ بعدئذٍ أحدَ مشاهير المسلمين في القرن العشرين.

تَرقَّى محمد أسد إلى محرر صحفي بسبب سبق صحفي أحرزه مع زوجة الروائي الروسي مكسيم غوركي عن المجاعة التي ضربت روسيا عام 1921م، ومنذ ذلك الوقت تَرقَّى ليوبولد في المناصب إلى أن صار نائبًا لرئيس تحرير قطاع أخبار الصحافة الإسكندنافية على الرغم من صغر سنه.

 

“رُوحانيّ في عالَم إمبرياليّ”

لقد تتبعت قصص كثير من هؤلاء الغربيين الذين قدِمُوا إلى بلاد العرب، وعاشوا بين ظهرانيهم، وجاؤوا بطموحات إمبراطورية وأوهام دينية ورغبة استعمارية وشعور بالتفوق على العرب، نرى ذلك في سلسلة طويلة من المغامرين من لورانس العرب وخاتون بغداد جيروتريد بيل وجون فيلبي وجلوب باشا وغيرهم.

واحد منهم كان من طينة مختلفة عن هذه العصابة، يشترك معهم في غواية الصحراء والتدقيق في ملامح الشخصية العربية، لكن محمد أسد كان لديه نزوع روحاني وبصيرة دينية مكَّنَته من رؤية جوهر الإسلام وتَعرُّف محاسنه وفضائل العرب، في ما يقصه علينا أسد من رحلاته في الصحراء مع دليله زيد الشمري شيء مختلف.

لم يتعلق أسد بالمنافسات الاستعمارية في عالَم يتشكل ويغلي بالصراعات، وإن انبهر بشخصية الملك عبد العزيز، وهل استطاع أحد الفكاك من كاريزما هذا الملك؟!

كانت صراعات الروح في عالَم المادة هي ما يشغل بال أسد، ركّز جهده في التحرُّر من أشكال الوثنية المعاصرة والبحث عن طريق الخلاص الروحي.

 

“تَعرُّف العرب”

تأمَّلْ معي كيف تَعرَّف أسد الشخصية العربية كما يحكي في مذكراته:

“نهض البدوي الذي كان جالسًا أمامي ببطء وأزاح غطاء رأسه عن وجهه وفتح نافذة القطار المجاورة له، كان وجهه نحيلًا داكنًا حادّ الملامح، يشبه وجوه الصقور الحادة. اشترى فطيرة، ثم هم بالجلوس، حين وقعت عيناه عليَّ؛ دون أن ينطق بكلمة، قسم الفطيرة نصفين وقدّم لي نصفها، حين لاحظ تردُّدي ودهشتي، ابتسم -لاحظت أن ابتسامته تليق بوجهه كما كانت لائقة عليه النظرات الصقرية الحادة- قال كلمة لم أفهم معناها في ذلك الوقت ولكني أعرف الآن أنها كانت (تَفضَّلْ). أخذت نصف الفطيرة وهززت رأسي شاكرًا. مسافر آخر يرتدي ملابس أوروبية وطربوشًا أحمر ـ تَدخَّل مترجمًا، وبإنكليزية متعثرة قال: “يقول لك أنت على سفر وهو على سفر، وطريقكما واحد”.

حين أفكر الآن في ذلك الحدث الصغير، يتبيَّن لي أن كل الحب الذي أحببته للشخصية العربية بعد ذلك، لا بد من أنه قد تأثر تأثُّرًا كبيرًا بتلك الواقعة الصغيرة. كان لتلك اللفتة الكريمة من ذلك البدوي، الذي شعر بالصداقة تجاه مسافر معه بالصدفة رغم حواجز اختلاف الأجناس واقتسم معه خبزه، ما أشعرني بأنفاس الإنسانية الحرة الخالية من أية عاهات وعلل نفسية بشرية”.

 

“روح المغامرة والتجوال”

في حياة محمد أسد اتساع، حياته المبكرة التي جاب فيها الشرق الأوسط، وروح مغامر يسافر يجوب البلاد من فارس إلى قلب الجزيرة العربية، ويقطع أسد المسافة من حيفا إلى دمشق سيرًا على الأقدام معتمدًا على شبابه وعلى كرم الضيافة العربية.

وسافر أسد من أقصى صحراء ليبيا حتى مرتفعات باميرز المغطاة بالجليد في أفغانستان، وتَحرَّك من مضيق البوسفور حتى بحر العرب.

عالَم لم يكُن فيه صعوبات سفر حيث يقطع أسد بسهولة صحراء سيناء ويصل إلى فلسطين ويقابل قادة الصهاينة في بدايات الهجرات المبكرة إلى أرض فلسطين ويتناقش معهم ويجادلهم، حيث قابل زعيم الحركة الصهيونية حاييم وايزمان وسأله السؤال الأهم في المسألة الفلسطينة: ماذا عن العرب؟

أي: إلى أين سيذهب العرب في هذه الدولة الوليدة؟ وفي السيرة إجابة وايزمان على أسد، وطرح أسد عام 1924 تعبير «الاستعمار الصهيوني» (Zionist colonialism)، قبل عقودٍ من ذيوعه في الكتابات ضد إسرائيل.

 

“في حب الصحراء”

في الطريق إلى مكة يصف أسد جمال الربيع في الصحراء، يقول: “في أيام أخرى، حين تحلّ ضيفًا على مضارب بدو، ويقدّمون لك آنية مليئة بحليب دسم من إناث النوق في بداية الربيع، حين تزهر الآكام والكثبان وتعلوها الخضرة بعد فصل المطر وتغدو قطعان الحيوانات وأثداؤها ثقيلة مليئة باللبن، ومن ركن الخيمة تسمع أصوات نساء ضاحكات وهن يطهين خروفًا على النار نحروه إكرامًا للضيف…

مثل كرة من الحديد الأحمر تتوارى الشمس خلف التلال الرملية، في المساء تبدو السماء مكتظة بالنجوم وتبدو أعلى وأعمق من أي سماء تبدو في مكان آخر من العالَم، تنام تحتها نومًا عميقًا يخلو من الأحلام، ثم يحلّ الفجر الرمادي الشاحب بنسمات باردة حتى يحلّ صباح ساطع الضياء.

ليالي الشتاء باردة، خفقات رياحه الباردة تهبّ على مخيَّم المرتحلين المتجمعين حول النار يتقاربون من بعضهم طلبًا للدفء، أيام الصيف حارقة وأنت ترحل على ظهر بعيرك تهتزّ على وقع خُطاه، الوجه ملثَّم بالكوفية للوقاية من الرمال الساخنة التي تذروها الرياح، تغوص حواسُّك في غلاف من النعاس، فيما يحوم فوق رأسك طير مفترس في خطوط ترسم دوائر على صفحة السماء”.

هذا وصف بديع للحياة العربية على مدى قرون طويلة.

ويوضح أسد أن هذا العالَم انتهى وتَغيَّر، يقول في نهاية مقدمة كتابه: “إن الجزيرة العربية التي سأرسم صورتها في الصفحات التالية قد زالت من عالَم الوجود، لقد تَحطَّمَت عزلتها ووحدتها تحت نهر قوي من النفط والذهب، لقد تلاشت بساطتها العظيمة كما تلاشى معها الكثير مما كان نسيج وحده في عالَم الإنسان”.


“العطش في الصحراء الممتدة: سيرة روائية”

استطاع أسد تجسيد رحلته في الجزيرة العربية بشكل أقرب إلى فن الرواية، تكاد تظمأ من روعة ودقة وصفه عندما يقول:

“في أيام العطش يُلِحّ عليك نداء الحياة، حين يلتصق لسانك بسقف فمك ويصبح مثل حطبة جافة، ولا يظهر في الآفاق أمل غير رياح السموم اللافحة وعواصف الرمال”.

تطرح سيرة الطريق إلى مكة عشرات القضايا المهمة، مثل لقاء محمد أسد مع الشيخ عمر المختار في ليبيا.

وتكمن روعة سيرة محمد أسد في رؤيته الثغرات في التجربة الغربية، ورغم قدومه من الإمبراطورية النمساوية التي وصفها مواطنه ستيفان تسفايج في سيرته بأنها بلغت درجة عالية من التقدم والغرق في الفنون والمدنية وكانت في ذروة مجدها، أدرك أسد حالة الفراغ الروحي في الغرب، والفظائع التي ارتُكبت في الحرب العظمى، أي الحرب العالَمية الأولى.

على الجانب الآخر أدرك محمد أسد النبع الروحي في الإسلام رغم هزيمة البلاد العربية سياسيًّا في ذلك الزمان وتَفكُّك البلاد العربية، شعر بالطاقة التي يحتوي عليها صوت الأذان عند المسلمين، شعر بقيمة الضيافة لديهم رغم الفقر وضيق الحال.

جعل أسد من الكتاب قصة انقلاب من عالَم الغرب إلى عالَم العرب، انظر كيف كانت نظرته دافئة رحيمة بمسألة الضحك والمزاح عند المصريين ولم يرَ فيها سطحية مثل نظرة الغربيين، وكيف حوَّل مشاهداته إلى وُدّ ودفء، وصنع من معايشة أمور الحياة العادية لحظات دهشة مثلما وصف طريقة تحضير القهوة العربية وهو يحكي لنا: “كانت رائحة القهوة الطازجة مثل حضن امرأة!”.

ويضع لنا وصفًا مهمًّا للقهوة: “مُرة كالموت، ملتهبة كالعشق!”، هذا كتاب يصلح في شهر رمضان، هو رواية عن شخصية عظيمة مغامِرة متأمِّلة، أبدعت في وصف ما مرَّت به من تجارب ثرية.


تقول بولا حميدة زوجة محمد أسد في وصف بسيط يعبِّر عن صدق محمد أسد في ما يعبِّر عنه في المحاضرات:

‏”وصلنا إلى القاعة الممتلئة بالحضور، وجلستُ في الصف الأول، ليس من باب فرض الأهمية، بل لأن زوجي قال بإصرار إنه يجب دائمًا أن يرى وجهًا واحدًا أمامه يوجِّه إليه كلامه مباشرة، ووجهي، بوصفي زوجته ورفيقته، هو أنسب الوجوه لهذا”، من مقدمة كتاب هذه شريعتنا.

ودلَّني أ.منصور الحذيفي على كلمة للناقد حسين بافقيه عن سيرة أسد، حيث يقول عنها: “هذا عَمَلٌ جامِعٌ، لأنَّه يَجْمَعُ أنواعًا أدبيَّةً شتَّى:

هو سِيرةٌ ذاتيَّةٌ لأنَّه يطوي بين صفحاتِهِ سيرةَ إنسانٍ اسمُهُ ليوبولد فايس [محمَّد أسد]،

وهو رحلةٌ لضرْبِهِ في الأرضِ،

وهو روايةٌ لاشتمالِهِ عَلَى ما نرجوهُ مِنْ صنعةِ الرِّوايةِ،

وهو نَصٌّ أدبيٌّ في الذُّرَى مِنَ النُّصُوصِ الأدبيَّةِ،

وهو، كذلك، كِتابٌ فلسفيٌّ، تأمُّلِيٌّ..

هلْ أبالِغُ حِينَ أقولُ: إنَّهُ كُلُّ ذلكَ وأكثرُ مِنْ ذلك؟!”.

شارك

مقالات ذات صلة