آراء

شرق سوريا بين إرث التهميش وانتظار المصير: هل تتحقق العدالة بعد انتصار الثورة؟

مارس 5, 2025

شرق سوريا بين إرث التهميش وانتظار المصير: هل تتحقق العدالة بعد انتصار الثورة؟

حين انطلقت الثورة السورية في آذار 2011، حمل السوريون معها تطلعات الحرية والعدالة وإنهاء عقود من الاستبداد والتهميش. لم تكن الجزيرة السورية خارج هذا السياق، فقد شارك أبناؤها – من العرب والأكراد والسريان – في الحراك الشعبي السلمي، متحدين خلف مطالب إنهاء الظلم الذي مارسه النظام البعثي على المنطقة لعقود طويلة. رغم أن الجزيرة تعد من أغنى مناطق سوريا بالثروات الطبيعية، من النفط والغاز إلى الأراضي الزراعية الخصبة، إلا أن سكانها ظلوا يعانون من سياسات الإقصاء والتهميش، سواء التمييز الذي عاناه الشعب الكردي أو التهميش الذي عاناه الجميع ولم يجنوا من خيرات مناطقهم سوى الفقر والإهمال.

 

لقد عانى أبناء الجزيرة السورية من مظالم متعددة، من اضطهاد النظام السوري لعقود، إلى وحشية تنظيم  داعش التي اجتاحت المنطقة، وصولاً إلى حكم الإدارة الذاتية بقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي لم تختلف كثيراً في فرض الأمر الواقع بالقوة واستغلال الموارد دون إشراك حقيقي للسكان المحليين في إدارة مناطقهم.

 

 

الترابط الاجتماعي في الجزيرة: وحدة الضرورة والمصلحة المشتركة

 

الجزيرة السورية لم تكن يوماً منطقة صراع بين مكوناتها بقدر ما كانت نموذجاً لترابط اجتماعي فرضته المصالح الاقتصادية والضرورات المعيشية، حيث قامت العلاقة بين العرب والكرد والسريان وغيرهم على مبدأ التداخل والتكامل الاقتصادي والاجتماعي. فالزراعة، التي شكلت العصب الاقتصادي للمنطقة، قامت على تكامل بين المنتجين في الأرياف والتجار في الحواضر، حيث اعتمد المزارعون على شبكة اقتصادية مترابطة مع الأسواق المحلية والإقليمية، ما جعل النشاط الزراعي ركيزة اقتصادية تجمع مختلف المكونات،  كان النشاط التجاري في مدن مثل القامشلي والحسكة والرقة يعكس هذا الترابط، حيث كانت الأسواق تجمع مختلف الفئات الاجتماعية في تبادلٍ منفعيٍّ متداخل.

 

على مستوى العشائر، لم يكن هناك حدود قومية صارمة، فالكثير من العشائر العربية دخلت في تحالفات مع عشائر كردية أو عائلات سريانية، وعلاقات المصاهرة بين مختلف المجموعات عززت تماسك النسيج الاجتماعي. حتى خلال سنوات الحرب، ورغم محاولات بعض القوى استغلال الانقسامات، بقيت الروابط التقليدية حاضرة في إدارة الأزمات المحلية، حيث تعاونت القبائل والمجتمعات المحلية في التصدي لداعش ومقاومة سياسات التغيير الديمغرافي. هذا التشابك العميق بين المكونات يجب أن يكون حجر الأساس لأي مشروع سياسي مستقبلي في المنطقة، بدلاً من محاولات فرض هيمنة طرف على حساب الآخرين.

 

 

الإدارة الذاتية: بين الخطاب الديمقراطي والممارسة السلطوية

 

عندما فرضت قوات قسد سيطرتها على شرق الفرات، روّجت لمشروع قائم على الإدارة الذاتية والتعددية، إلا أن الممارسة الفعلية أظهرت نمطاً من الحكم القائم على الإقصاء والتفرد بالقرار، حيث استبعدت المكونات العربية من عملية صنع القرار الفعلي، في الوقت الذي تهيمن فيه شخصيات مقربة من حزب الاتحاد الديمقراطي على المناصب الرئيسية. وقد أدى هذا النهج إلى توتر مستمر بين الإدارة الذاتية والعشائر العربية، حيث تتزايد الانتقادات حول طبيعة توزيع السلطة والموارد.

 

ولا يمكن لأي نظام سياسي أن يكتسب شرعيته من مجرد فرض سلطته بالقوة أو الترويج لشعارات ديمقراطية جوفاء، بل يجب أن يستند إلى مشاركة حقيقية من المجتمعات المحلية في إدارة شؤونها. وكما يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هابرماس: “لا يمكن أن تكون هناك شرعية دون مشاركة شعبية حقيقية، حيث تتحدد شرعية النظام بقدرته على تمثيل إرادة المحكومين لا فرض الهيمنة عليهم.” إن الإدارة الذاتية اليوم تعاني من أزمة شرعية متزايدة، حيث لم تنجح في إقناع السكان المحليين بقدرتها على تمثيلهم سياسياً واقتصادياً، ما جعلها عرضة لموجات متكررة من الاحتجاجات والرفض الشعبي المتصاعد.

 

أحد أكثر الملفات إشكالية هو التجنيد الإجباري، الذي أصبح نقطة خلافية كبرى بين الإدارة الذاتية والسكان المحليين، خاصة في المناطق ذات الغالبية العربية. حيث يتم فرض التجنيد على الشباب، بما فيهم القُصّر، في ظل غياب سياسة واضحة تضمن حماية المجتمع المحلي من استنزاف موارده البشرية. هذه السياسة لم تؤدِ فقط إلى تزايد حالات الفرار والاحتجاجات، بل أسهمت أيضاً في تآكل ثقة السكان بالإدارة الذاتية، التي باتت تُتهم باستخدام التجنيد كأداة للسيطرة بدلاً من كونه ضرورة أمنية.

 

 

الاستبداد السياسي والفساد الاقتصادي: قمع الحريات ونهب الموارد

 

على الرغم من الخطاب الذي تتبناه الإدارة الذاتية حول الديمقراطية، إلا أن الواقع يشير إلى تزايد الانتهاكات بحق المعارضين والناشطين، حيث يتم التعامل مع أي انتقاد للسياسات المتبعة على أنه تهديد أمني. وقد شهدت السنوات الأخيرة عمليات اعتقال طالت شخصيات قبلية وصحفيين، فضلاً عن تضييق الحريات الإعلامية، وهو ما خلق مناخاً من الاحتقان الشعبي، انعكس في احتجاجات متكررة في دير الزور والرقة والحسكة.

 

رغم أن شرق سوريا يمتلك ثروات طبيعية هائلة، إلا أن السكان لا يزالون يعانون من الفقر وغياب الخدمات الأساسية. إذ يتم تصدير النفط عبر قنوات غير شفافة، فيما تستمر الإدارة الذاتية في فرض ضرائب وإتاوات على الأنشطة التجارية، مما أدى إلى خلق بيئة اقتصادية متردية. ويبدو أن الفساد المستشري وغياب آليات الحكم الرشيد قد حالا دون الاستفادة من هذه الموارد في تحسين الواقع المعيشي للسكان.

 

 

سيناريوهات المستقبل: أين العدالة لشرق سوريا؟

 

مع سقوط نظام الأسد قبل ثلاثة أشهر، تحاول الإدارة الذاتية البحث عن صيغة تضمن بقاءها عبر التوصل إلى اتفاق مع الحكومة الجديدة في دمشق. ورغم سعيها لإضفاء شرعية سياسية على وجودها، إلا أن التحدي الأكبر أمامها لا يكمن فقط في قبول دمشق بهذا الاتفاق، وإنما في الرفض الشعبي المتزايد داخل مناطق سيطرتها. فالسكان الذين عانوا من سياسات قسد القمعية، والتهميش الذي طال المكونات العربية، يرفضون أي صيغة تمنح الإدارة الذاتية شرعية للاستمرار دون إعادة هيكلة جذرية للحكم المحلي.

 

وفي الوقت الذي يحتفل فيه السوريون بانتصار ثورتهم وتحقيق أهدافها في باقي أنحاء البلاد، تبقى المحافظات الشرقية رهينة مفاوضات غير عادلة تديرها قسد مدعية تمثيل السكان، رغم أن معظم الأهالي يرفضون هذه الوصاية السياسية. إن الثورة التي انطلقت للمطالبة بالعدالة والمساواة لا يمكن أن تكتمل طالما بقيت مناطق بأكملها محرومة من حق تقرير مصيرها بحرية.

 

 

نحو هوية وطنية جامعة لا تقبل التجزئة

 

المستقبل الذي يحتاجه السوريون في شرق البلاد لا يجب أن يكون رهينة الحسابات القومية أو المصالح الحزبية الضيقة. إن بناء هوية وطنية سورية جامعة يجب أن يكون أولوية، بحيث تُصان حقوق جميع المكونات دون استثناء، ويتم تجاوز الصراعات القومية التي لطالما استغلتها قوى إقليمية ودولية لخدمة أجنداتها الخاصة.

 

إن استمرار أي كيان سياسي يعتمد بشكل أساسي على مدى قدرته على تحقيق التوافق بين مختلف مكوناته، لا على فرض الأمر الواقع بالقوة. وكما يشير الفيلسوف الإيطالي غرامشي: “الهيمنة ليست مجرد سيطرة سياسية، بل هيمنة ثقافية وفكرية تفرضها النخب على المجتمعات، وإذا لم تُبنَ الهوية الوطنية على التوافق، فستبقى المجتمعات خاضعة لأشكال مختلفة من التسلط.” لهذا، فإن الحل في شرق سوريا لا يكمن في استمرار الهيمنة السياسية الأحادية، بل في إعادة بناء عقد اجتماعي جديد يعكس تطلعات جميع سكان المنطقة، ويرفض أي مشاريع تكرّس الانقسام والاستغلال.

 

على حكومة دمشق أن تنظر إلى الشرق السوري ليس فقط كخزان اقتصادي يعج بالثروات، بل كمنطقة زاخرة بالموارد البشرية والطاقة المجتمعية القادرة على لعب دور مركزي في إعادة بناء سوريا. الاستثمار في الإنسان، وتمكين المجتمعات المحلية من حكم نفسها وفق نموذج وطني شامل، هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقرار الحقيقي. أما الاستمرار في سياسات الإقصاء والتفاوض غير العادل، فلن يكون إلا استمراراً لدورة الصراع، وتأجيجاً للانقسامات التي لن تخدم مستقبل سوريا الموحدة.

 

شارك

مقالات ذات صلة