مدونات
للكاتب: عبد الرحمن حسنيوي
يقول الرئيس الجنوب إفريقي السابق نيلسون مانديلا: “التعليم هو أقوى سلاح من الممكن استخدامه لتغيير العالم.” فالتعليم يُعد أداة أساسية في عملية التنمية، ويمثل محركًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي، التقدم الاجتماعي، والاستقرار السياسي. ولكن على الرغم من دوره المركزي، لا يزال يواجه تحديات حقيقية في دول الجنوب، حيث يتم إعاقة تأثيره الإيجابي من خلال العديد من العوامل التي تتعلق بالسياسات الحكومية، التمويل، والبنية التحتية. وعلى الرغم من الوعود الكبيرة التي يقدمها التعليم في تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، تظل كثير من دول الجنوب بعيدة عن الاستفادة الكاملة من هذه الأداة الأساسية.
من الناحية الاقتصادية، يُعد التعليم العامل الأساسي في تحفيز الابتكار وزيادة الإنتاجية، فالدول التي استثمرت في رأس المال البشري شهدت قفزات كبيرة في مستويات النمو الاقتصادي. على سبيل المثال، كوريا الجنوبية التي استطاعت أن تتحول من دولة فقيرة إلى واحدة من أكبر اقتصادات العالم بفضل سياسات تعليمية متطورة تركز على العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، نجد أن العديد من دول الجنوب لا تضع التعليم ضمن أولوياتها الاقتصادية بالشكل الكافي، إذ تظل أنظمتها التعليمية غير قادرة على تلبية احتياجات سوق العمل المتغير. وتكمن المشكلة في غياب التخطيط طويل الأمد والإرادة السياسية، مما يجعل التعليم أحيانًا بلا تأثير حقيقي على النمو الاقتصادي.
أما على المستوى الاجتماعي، فالتعليم يمكن أن يكون أداة مهمة لتعزيز العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق بين الطبقات، إذ يُعتبر عاملًا أساسيًا في بناء مجتمع متماسك، حيث يُسهم في نشر قيم التسامح والمساواة. لكن الواقع في دول الجنوب يختلف، حيث لا يزال هناك العديد من العوائق التي تحد من إمكانية استفادة الجميع من التعليم، سواء بسبب الفقر أو العوائق الثقافية أو الجغرافية. ففي الكثير من الأحيان، يعاني الأطفال في المناطق الريفية من نقص في الفرص التعليمية مقارنة بنظرائهم في المدن. وهكذا، يظل التعليم بالنسبة للعديد من الفئات الاجتماعية مجرد حلم بعيد المنال، بينما تتحقق الفرص التعليمية بشكل غير متساوٍ، مما يرسخ في النهاية الفوارق الاجتماعية والمجالية.
أما من الناحية السياسية، فيمكن للتعليم أن يلعب دورًا مهمًا في تعزيز المشاركة السياسية وبناء حكومات ديمقراطية، لكن في كثير من دول الجنوب يُنظر إلى التعليم على أنه وسيلة لتمكين الحكومات القائمة من الحفاظ على سلطتها، وليس كأداة لتمكين المواطن. ذلك أن التعليم في بعض الدول لا يُشجع على التفكير النقدي أو المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية، بل يقتصر في أغلب الأحيان على تعليمات روتينية تهدف إلى تعزيز الولاء السياسي. وفي الواقع، نجد أن النظم السياسية في دول الجنوب تتأثر سلبًا بسبب غياب التعليم الذي يعزز الوعي السياسي لدى المواطنين ويشجعهم على المشاركة الفعالة في العملية الديمقراطية. وبالتالي، يبقى الاستقرار السياسي في كثير من هذه الدول هشًا وغير مستدام.
التحديات التي تواجه التعليم في دول الجنوب معقدة للغاية، ولا تقتصر فقط على نقص التمويل أو البنية التحتية، بل تتعلق أيضًا بعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لتحسين الوضع التعليمي. فالفجوة بين المناطق الحضرية والريفية ما تزال كبيرة، والوصول إلى التعليم في بعض الدول يظل ترفًا لا يستطيع الكثيرون تحمله. هذا بالإضافة إلى أن النظام التعليمي في العديد من الدول يعاني من قدم المناهج وعدم مواكبتها للتطورات السريعة في عالمنا المعاصر، مما يجعل المتعلمين غير مجهزين بالمهارات التي يحتاجها سوق العمل.
ورغم هذه التحديات، يبقى التعليم هو السبيل الأمثل نحو تحقيق التنمية المستدامة. وإذا كانت الدول النامية تريد الاستفادة من هذه الأداة بشكل حقيقي، فيجب عليها أن تستثمر فيها بجدية وتضعها في صلب استراتيجياتها الوطنية. كذلك، ينبغي على الحكومات تخصيص موارد كافية لتمويل التعليم، تحديث المناهج، وتدريب المعلمين بما يتماشى مع احتياجات المستقبل. كما أن التعاون الدولي يجب أن يكون جزءًا من الحل، حيث يمكن للدول المتقدمة أن تسهم في تقديم الدعم الفني والمالي للمساهمة في تحسين أنظمة التعليم في دول الجنوب.
في الأخير، لا يمكن أن يكون التعليم مجرد أداة لتحقيق التقدم الاقتصادي أو الاجتماعي فقط، بل يجب أن يُنظر إليه كوسيلة لبناء مجتمع يعبر عن طموحات أفراده، ويسهم في خلق توازن بين الحقوق والفرص. في نهاية المطاف، إذا تم استغلاله بشكل فعال، يمكنه أن يغير وجه دول الجنوب بالكامل، ويضعها على المسار الصحيح نحو تنمية حقيقية ومستدامة.