تأملات

رمضان الذي أنتظره منذ عشرين سنة

مارس 4, 2025

رمضان الذي أنتظره منذ عشرين سنة

بقلب منهك، وروح شقية، وبدن آيل للسقوط، ودموع متحجرة في المآقي، ولسان معقود في الحلق، أستقبل رمضان هذا العام، ليس كأنني أدخل شهرا يدور علينا دورة الأيام، وإنما كأنني ألقى قريبا أنيسا أعرفه في غربة طويلة وشاقة، هو الذي يزورني متفقدًا حالي، بعد حضن مطاراتٍ طويل، كأنه مبعوث سامٍ، وموفَد رفيع المستوى، أو كهذا المسافر الذي كان يأتي من البلد ويمر بالمغترب في مهجره، وبجعبته كسرات من خبز الأم ولقيمات يقمن صلبه، كان العرَض الطعام وكان الغرض الدفء الذي يسري، والنفَس الذي يسكن الجوف.


وأنا جوفي مليء بالسقم، وجسمي مثخن بالجراح، ووجهي مضرج بالدماء، كلي خارج الخدمة، منزوع القوة والأثر، وفي ذهني صور تتعارك دون هوادة، تعتصر قلبي في قسوة مفرطة، لكل تلك الوجوه التي رأيتها على مدار عامين، وهي تفارقنا، قطعة قطعة، ونظرة نظرة، خمسون ألف عين حدقت بي قبل أن تغمض للأبد، وتركت كل منها في صدري وخزةً تؤلمني كل ساعة، حتى بت إنسانا يعيش بخمسين ألف وخزة في صدره، تتكرر ذاتها كل يوم، متنفسًا روائح الموت، ومستنشقًا شهقات الشهداء، ومنصتًا لأنّات الرحيل الأخيرة، وأنا أسير مساحتي الضيقة، لا أستطيع الحراك، جاثوم جاسمٌ عليَّ من رأسي، يمنعني أن أروح يمنةً أو يسرة، وبداخلي زفرات طال عليها الأمد، وعبدٌ كسيرٌ يتعكَّز على ما بقي من إيمانه، ويبحث عن الله.


الله الذي أجد آثار رحمته في ذلك العابر الحَنون، أرتمي بين يدي الشهر، من أول ليلة، بالله أغثني، بالله أنقذني، بالله انقل رسالاتي إلى الأعلى، بالله خذني أنا ورقِّني، فأناجي الله برسالاتي، يا ربي أنا ذلك العبد المسكين الظلوم الجهول، يا ربي أنا ذلك العاصي الفقير إليك، يا ربي أنا ذلك المسكين المحتاج، يا ربي أنا ذلك الذي يناديك من داخله، يريد حلا، يريد فرجا، يريد رفعا للغم والهمّ، أيعجزونك؟ والله لا، أتخذلنا؟ حاشاك، فمتى تجير القلب الكسير من الردى؟ ومتى تجبر الذراع الممتدة إليك، والإصبع المبصبصة نحو عليائك، تدعوك أن أغثنا يا مغيث، يا حي يا قيوم، يا كل اسم محببٍ إليك، أنا عبدك!


عبدك الشقيّ الذي جال وصال، وضيّع السنين الطوال، وقد كان في غفلة من أمره وعمره على مدار العقود الفائتة، حتى جاءت غزة فعرفته بك حق المعرفة، معرفةً أخرى غير تلك التي كنا نأخذها بالسليقة والبديهة، وإنما يراك كأنه أول مرة يراك، وهي بالفعل المرة الأولى، ويعبدك كأنه لم يكن عبدا لسواك من قبل، معاذ الله، ويعرف فيك الطريق الذي لطالما بحث عنه، فجددت البلدة الطيبة للناس إسلامهم، وعرفتهم مرابط الإيمان، وشرحت لهم الدين من حيث لم يكونوا يعرفونه من قبل، ليدركوا ما أتاهم، ويتجهزوا للمخمصة القادمة، والأيامُ مختبرات.


رمضان الذي انتظرته طوال عمري يا رب، منذ عرفتُ الدعاء والبكاء، والمسجد والسجود، منذ وعيتُ على الدنيا، رمضان الذي يأتي وأنا جاثٍ على ركبتيّ، تبعثرني الفوضى بداخلي، وتحاصرني المشاهد من حولي، يؤلمني أسيرٌ في مصر معتقل منذ اثنتي عشرة سنة حتى غزا الشيب رأسه، ولم يكن يعلم من الشباب إلا أوَّله لحظة اقتاده المجرمون مغمى العينين مقيد اليدين والقدمين إلى أقبية الأمن الوطني، ويوجعني شريد بالسودان كان عزيزا في قومه لا يأتي رمضان إلا وجعل من شارعه مائدةً تسع قريةً كاملة، وقد بات يأكل ورق الشجر، ويفجعني مختطفٌ سجينٌ في زنازين سحيقة تحاول التخفي تحت ظل ناطحات السحاب، كأن ذلك سيواريها عن إدراك عرش الرحمن، وترهقني تلك البلاد الغارقة في دمائها، المستغرقة في مراغَمة العدوان عليها محاولة لوي ذراع عدوها ثم كسر عنقه، وتسيل الدماء من كل جانب، مدرارة، كأن ليس على أحد في الأرض أن يدفع دماءه ثمنا لكرامته سوانا.


يأتي رمضان وأنا ذلك الإنسان المكتوي بكل تلك البلادة والإبادة، بقلب استحال بياضه سوادا وعتمةً، وعين استحال سوداها بياضا وظُلمة، أحتاج إلى أن أرتمي في حضن أكبر من حضن الناس، وأوسع من ضمٍّ إنساني ودود، وإنما هنا هو الارتماء بين يدي ثلاثين يوما، نحتاج إليها بشدة جميعا، نريد أن نخرج منها فائزين بنفوسنا، وقد دخلنا بلا نفس ولا نفَس. ندعو مفتقرين إلى صاحب الأمر والملك جل في علاه، لا نملك من أمرنا شيئًا وليس في أيدينا شيء، إلا أن ندعوه فيغدق ويعطي.

كل تلك الجراح التي لم تكن شيئًا له وزن قبل غزة، وتلك السحجات في قلبي ورأسي، وتلك الرضوض في ضلوعي وصدري، كل تلك المعارك المؤجلة في داخلي، وكل تلك الدعوات المشظاة في لساني، كلنا كنا بانتظار رمضان هذا تحديدا، لأننا فقدنا نفوسنا بما يكفي، ومن يريد العثور على نفسه مجددًا، فليجد الله!

شارك

مقالات ذات صلة