الحضارة، أو المدنية بمعنى آخر، هي نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتألف الحضارة من أربعة أمور، وهي: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. ولا تبدأ الحضارة إلا عند توفر الأمن وانتهاء الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان على نفسه، توجه إلى فهم الحياة وإزهارها.
هناك عدة عوامل يرتبط بها قيام الحضارة وازدهارها أو سقوطها وانهيارها. وأولها “العوامل الجيولوجية“، فهي تؤثر على الحضارة من خلال الزلازل والبراكين وما شابهها من العوامل المناخية التي قد تعيق التقدم.
وثانيها “العوامل الجغرافية“، وعلى الرغم من أنها لا تنشئ الحضارات والمدن، فإن لها دورًا هامًا في ازدهارها. فالأحوال الجوية والعوامل المناخية تؤثر بشكل كبير على نشوء الحضارات، فالماء مثلًا هو وسيلة الحياة، فترى الأماكن وفيرة المياه يسكنها البشر فيكون من شأنها التطور، وترى الأماكن الجافة الحارة لا يمر فيها نسيم من حياة ولا بصيص من أمل، فلا تقوم فيها الحضارات ولا المدن ولا يصيبها شيء من التطور. كذلك الموقع الجغرافي يلعب دورًا رئيسيًا في التأثير على التجارة والتعارف مع الثقافات والشعوب الأخرى، التي من شأنها تبادل الخبرات والعلوم.
وثالثها “العوامل الاقتصادية“، والتي تعد من أهم هذه العوامل. فقد يكون لشعب ما مؤسسات اجتماعية منظمة، وتشريع خلقي رفيع، بل قد تنبت فيه صغيرات الإبداع والتطور، لكنه لن ينتقل من الهمجية إلى المدنية بدون التطور الاقتصادي؛ فهذا هو البدوي العربي تراه على درجة نادرة من الفتوة والذكاء والكرم ومحاسن الشيم، لكنه وإن كان على قدر عالٍ من هذه المحاسن، إلا أنه وبلا شك سينفقها في مخاطر الصيد ومقتضيات التجارة، بحيث لا يبقى شيء لوشى المدنية واحتياجاتها وملحقاتها وزينتها.
إن الزراعة هي الطريق الأول الذي تتبدى فيه الثقافة، فالإنسان لا يجد لتمدنه فراغًا وسببًا إلا إذا استقر في مكان تصلح تربته للزراعة وتحسن مياهه للري. فإذا كان ذلك، بنى في مكانه المعابد والمدارس والأسواق، واخترع الآلات والصناعات، فتعلم كيف يعمل في نظام واطراد.
ولا ترتبط المدنية بجنس معين أو لون معين من البشر، فمتى ما توفرت الشروط الجغرافية والاقتصادية المناسبة في مكان ما، قامت الحضارة. فليس الجنس العظيم هو الذي ينشئ المدنية، بل المدنية هي من تنشئ الشعب العظيم.
واعلم أن هذه العوامل ما هي إلا شروط مادية لازمة لإنشاء المدنية، لكن المدنية لا تنشأ من هذه العوامل فقط، فلا بد من إضافة عوامل نفسية إليها؛ كنظام سياسي يسود الناس فيدنو بهم إلى الحد الأدنى من الفوضى، ولا بد من وحدة لغوية لتكون بين الناس وسيلة لتبادل الأفكار، ولا بد أيضًا من قانون خلقي يربط بين الناس عن طريق الجامع أو الأسرة أو المدرسة أو غيرها، حتى تكون هناك قواعد يرعاها حتى الخارجون على النظام، فيحدث بذلك نوع من الانتظام السلوكي.
فلو انعدم أحد هذه العوامل، لكان من الممكن للمدنية أن يتقوض أساسها. فزلزال ضارب قد يأتي فيذهب بها أرضًا، أو وباء يتفشى بين الناس فيفلت بذلك زمامه من أيديهم فيذهب بهم. وقس على ذلك…