أدب
وقفتُ أمام رفوف المكتبة باحثًا عن كتاب أقضي به ساعة في نهاية يومي، بعد تعب العمل ومتابعات الأخبار المرهقة وتفاهات النقاشات اليومية، وألم الغربة خصوصًا عندما تمرض أو يمرض أحد أفرد أسرتك وتذهب إلى المستشفى وحيدًا مستعينًا بالله، كل ذلك يدفعني إلى العودة إلى الكتاب لأغسل ما علق في يومي من هموم ومشاغل وتشتيت انتباه في معترك الحياة، أصمت قليلًا وأقلّب في الصفحات كي أتجدد، كان حظي هذه الفترة كتابًا جميلًا بعنوان “النُّضَار.. الآثار الباقية لجاحظ العصر عبد العزيز البِشْري“، دراسة وتحقيق: د.عبد الرحمن قائد، تمتعت باللغة الأنيقة من الشيخ عبد العزيز البِشْري ونظراته الجميلة في الحياة والشخصيات.
د.عبد الرحمن قائد وخدمته للتراث الأدبي العربي
والحق فقد قلبت في فصول الكتاب وسعدت بآلة الزمن التي عادت بي قرنًا من الزمان، والفضل في ذلك للمحقق المميز الدكتور عبد الرحمن قائد، والكتاب مجموع بروح الوفاء التي تميز بها الدكتور قائد في كتبه السابقة، فقد جمع لنا سيرة الكاتب أحمد حسن الزيات في سيرة بعنوان ذكرى عهود، ونظرات مصطفى صادق الرافعي في الشعر بعنوان صون القريض، ورسيس الهوى بقية تراث شيخ العربية محمود محمد شاكر، ومقدمات عباس محمود العقاد من بطون الكتب والمجلات، والعمر الذاهب رحلة المازني مع القراءة والكتابة، وأخيرًا مع النُّضَار الآثار الباقية لجاحظ العصر عبد العزيز البِشْري، فالشكر له على صونه أدب كبار بلغاء العصر، ولَمّ أشتاته المتفرقة.
كل هذا مع جهد واضح في التحقيق والجمع والبحث مع مقدمات مميزة، فقد أعاد لنا في كتاب “النُّضَار” إحياء تسعين مقالة جديدة من نقيّ بيان عبد العزيز البِشْري ومتخير لفظه، تُنشَر أول مرة في كتاب، موزعة لموضوعات بين: الإسلاميات، والأدب، والاجتماع، والأفاكيه، والذكريات، والأعلام، وحديث الكتب. عقد عبد الرحمن قائد في مقدمته البديعة محاكمة للفظ “جاحظ العصر” ومن يستحقه من الأدباء في العصر الحديث، وينبّهنا كذلك في مقدمته لطريقة البِشْري في تعريف الكتب وعرضه لها في لون طريف من ألوان البِشْري وأفانينه، تختلط فيه السيرة الذاتية بالكاتب وموضوع الكتاب.
اعتنى قائد بهذه المقالات وصحَّح أغلاطها، ووثَّق مصدرها وضبط شكلها، وفسَّر غريب الكلمات وما أكثر غريبها، وعلَّق عليها، وخرَّج الأشعار والأخبار، كأنه يحقِّق نصًّا تراثيًّا، وهو يسخر من نفسه قائلًا: “لكأنما كُتب عليَّ أن أكون محقِّقًا أينما توجهت!”.
بل لعل صنيعه في هذا الكتاب أصعب من تحقيق النصوص التراثية وأشَقّ، إذ كان عليه أن يتتبع مقالات البِشْري في عشرات المجلات، وآلاف الأعداد وعشرات آلاف الصفحات، وبعضها نادر وقديم في خزائن الجامعات ودور الكتب، وكل ذلك عمل مُضنٍ، وجهد غائب لا ضائع، يعرف فضله من يحب الكتب ويغترف من أدب عبد العزيز البِشْري، ويشكر لقائد هذا الوفاء وجميل الصنيع، فقد نفع أبناء جيلي، وحكي لنا في المقدمة حاله معه رفيق له في قسم الدوريات بدار الكتب المصرية، فتَعجَّب صديقه من جهاز الميكروفيلم العتيق، وطريقة استعماله البائسة، ورأى قائد الرثاء لحاله في عين صديقه، وهو في شغل فاكه، وفي فناء عن شهود الأسى.
جولة في فصول الكتاب
الكتاب بحَقٍّ عودة بالزمن إلى قضايا عصر البِشْري، لفت نظري طريقة البِشْري في عرض شخصيات عصره وملاحظاته عليهم وترجمته لهم، ونظراته المميزة في هذه الشخصيات، مثل حديثه عن الشاعر أحمد شوقي، أو عندما يصف الشاعر حافظ إبراهيم، يقول الشيخ عبد العزيز البِشْري: “وحافظ إبراهيم يُعَدُّ بحقٍّ شاعرًا من الطراز الأول في عصره، ناصح القول، جزل اللفظ، فخم العبارة، متين النسج، نَيِّر الديباجة، رصين القافية. إذا اجتمَع للشعر جعل يَجُسُّ ما خرج له منه، فإذا أصاب في بعض اللفظ قلقًا أو نبوًّا أقبل عليه بالعلاج والصَّقل حتى يطمئنَّ ويستويَ في موضعه المقسوم له من الكلام”.
ويكمل وصفه قائلًا: “وحافظ رحمه الله كان مُرهَفَ الأذن، عظيم التذوُّق لبارع الكلام، يهتزُّ لِمَا يقع له منه، ويشتدُّ طربه عليه. وكان إلى هذا سريع الحفظ قويَّ الحافظة، يلقط ما يستجيد ويُبقي عليه، حتى لم يكُن يدانيه كثيرٌ في حفظ مصطفى الشعر ومتخيَّره من جميع أعصار العربية إلى غاية عصره”، ثم يقدِّم لنا قراءة في ثقافة حافظ إبراهيم وعلاقته مع الكتب، وهو رجل عاش مع الشاعر وكان رفيقه وبينهما صحبة طويلة.
وفي الكتاب قراءة لشخصيات كثيرة مثل قاسم أمين وعلاقته بالأميرة نازلي. عجيبة هذه الأميرة التي جمعت حولها قاسم وسعد زغلول والشيخ محمد عبده، وفي الكتاب وصف كذلك لجورجي زيدان وعرض لكتاب الشيخ محمد رشيد رضا رغم خلاف البِشْري معه، وحديث عن المنفلوطي، يقول عنه: “والمنفلوطي رحمه الله كان دقيق الحسِّ، رقيق العاطفة، رحيم القلب، يغمُره الشعور بالأسى من كل ما يتغيَّر على هذا العالم من ضروب الويل والشقاء، لهذا ترى قلمه أجود ما يكون في صفة مُدْنِفٍ عانٍ (المريض)، أو يتيم محروم، أو متَّهَم مظلوم، ونحو هذا من مآسي الحيا… وهو بعدُ رشيق القلم، سهل البيان، حلو العبارة، متين نظم الكلام. إذا هبطت عليه السَّجعة فذاك، وإلا لم يتكلف طلبها ولم يتعمَّل. وكان شديد التذوُّق لبلاغات العرب، يحتفل للجملة البارعة، وللصيغة الرائعة، فيفسَح لها في خلال نثره مكانها المقسوم”.
ويلفت نظرك في الكتاب كثير من المشكلات الاجتماعية في ذلك العصر، مثل ظهور الترام والازدحام في شوارع القاهرة، وتأملات من البِشْري عن الأثرة والأنانية في طبع الإنسان مثل هذه الخاطرة الجميلة: “أظُنُّ أن في كلٍّ منَّا عيوبًا كان من حقها أن تشغله عن طلب عيوب الناس، والتدسُّس إلى مكارههم، ولكنني لا أدري لماذا طُبع الناسُ على غير ذلك”!
أختم بهذه الطرفة، كان الشيخ الأديب عبد العزيز البِشْري أحد ظرفاء القرن العشرين مدعوًّا في يوم من الأيام إلى وليمة حافلة باللحم البلدي والثريد (الفتّة)، وصدف أن كانت جلسته بجوار مدرِّس للكيمياء، فصدّع المدرس دماغه بالكلام عن الكيمياء وحامض الكبريتيك وكلوريد الصوديوم ونترات الفضة، إلخ، ثم أخيرًا بدأ الأكل، فأخذَت الشيخَ الحماسة البالغة في الأكل، ومن فرط حماسته تناثرت الفتّة على ملابس جاره مدرس الكيمياء الذي صاح محتجًّا: ما هذا يا مولانا؟! فردَّ البِشْري في هدوء: “هذه نترات الفتّة”! قرأتُها في حساب على الإنترنت باسم “جيد المعالي“، ينتقي اقتباسات ممتعة.
هذا نوع من الكتب يستحقّ أن نعود إليه ونتعاهده بالقراءة والنقاش والنقد وتقريب صورة العصر الأدبي السابق والتمتع بهذه اللغة الأدبية الممتعة المفيدة، على الرغم من انزعاجي من مقالات البِشْري السياسية في الملك فؤاد والملك فاروق، لكنَّ بين ثنايا هذه المقالات كثيرًا من الشهادات الشخصية كأنها نتف من سيرة ذاتية.