سياسة

الميليشيات تتقدم والحدود تشتعل.. هل ينزلق شرق الكونغو إلى حرب إقليمية؟

فبراير 26, 2025

الميليشيات تتقدم والحدود تشتعل.. هل ينزلق شرق الكونغو إلى حرب إقليمية؟

تصاعد الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية يعيد إلى الأذهان شبح الحروب الإقليمية التي اجتاحت منطقة البحيرات العظمى في العقود الماضية، مما يثير مخاوف جدية من اندلاع مواجهة عسكرية واسعة النطاق. فقد تمكنت حركة “إم 23″، المدعومة من رواندا، من إحراز تقدم ميداني ملحوظ على حساب الجيش الكونغولي، الذي يعاني من نقص التدريب وضعف التجهيز، ما أجبر كينشاسا على الاستعانة بقوات خارجية لتعويض هذا الخلل. في هذا السياق، دفعت أوغندا وبوروندي وجنوب أفريقيا بوحدات عسكرية إلى الميدان، ما زاد من تعقيد المشهد وأضفى بُعدًا إقليميًا على النزاع المتفاقم.

لأكثر من ثلاثة عقود، ظل شرق الكونغو ساحة لصراعات متواصلة، حوّلت المنطقة إلى برميل بارود قد ينفجر في أي لحظة. فبين عامي 1996 و2003، شهدت المنطقة حربين مدمرتين، استدعتا تدخل ما يقارب عشر دول أفريقية، التي وجدت نفسها إما داعمة لكينشاسا أو موالية للجماعات المسلحة المختلفة. واليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، حيث تتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، وتتشابك التحالفات في صراع يتجاوز مجرد كونه نزاعًا داخليًا، ليصبح معركة نفوذ تتورط فيها قوى متعددة، كلٌ يسعى لترسيخ وجوده وتحقيق مصالحه على حساب استقرار الكونغو وسلامة شعبها.


حركة “إم 23” والقوات الرواندية: تحالف يتجاوز التمرد

تُعَدُّ حركة “إم 23” أحد أبرز الفصائل المسلحة المناهضة للحكومة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وقد عادت إلى واجهة الصراع منذ أواخر عام 2021 بقوة متجددة، حيث يُقدَّر عدد مقاتليها بما يتراوح بين 3,000 و4,000 عنصر، وفق مصادر دبلوماسية. إلا أن الأرقام وحدها لا تعكس حجم التهديد الذي تمثله الحركة، إذ تؤكد مصادر أمنية أن تدريب مقاتليها وتسليحهم يتجاوز بكثير قدرات الميليشيات المحلية، وذلك بفضل الدعم الحيوي الذي تقدمه لهم القوات الرواندية، المعروفة بخبرتها القتالية وقدراتها العسكرية المتقدمة.

وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن ما يقرب من 4,000 جندي رواندي ينتشرون في شرق الكونغو، وهم مجهزون بمعدات عسكرية حديثة تمنحهم تفوقًا واضحًا في ساحة المعركة، بما في ذلك أجهزة تشويش إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، والطائرات المسيّرة، ومنصات إطلاق الطائرات، فضلًا عن قذائف الهاون الموجهة بالليزر. هذا الانتشار العسكري لا يقتصر على الأراضي الكونغولية، إذ تعد رواندا من أكبر المساهمين في عمليات حفظ السلام في أفريقيا، كما نشرت قوات لمحاربة الجماعات الجهادية في شمال موزمبيق، مما يعكس الخبرة المتنامية لكيغالي في القارة.


الجيش الكونغولي والميليشيات المحلية: انهيار داخلي في مواجهة “إم 23”

لم يعد خفيًا أن القوات المسلحة الكونغولية تعاني من اختلالات عميقة، حيث يُعزى ضعفها إلى مزيج من الفساد وسوء التدريب وغياب الانضباط. الفساد مستشرٍ إلى درجة أن أعداد الجنود الفعلية تظل موضع شك، إذ غالبًا ما يضخم الجنرالات الأرقام لاختلاس رواتب الجنود “الوهميين”، وهو ما جعل الجيش عاجزًا عن إدارة ساحة المعركة بفعالية. وإلى جانب هذا الضعف الهيكلي، تعاني القيادة العليا من انقسامات سياسية حادة بين الموالين للرئيس فيليكس تشيسكيدي وأولئك الذين لا يزالون يدينون بالولاء لسلفه جوزيف كابيلا، مما يعمّق حالة التشرذم داخل المؤسسة العسكرية.

و تجلى الضعف الميداني بوضوح في أواخر يناير/كانون الثاني، عندما تلقت القوات الكونغولية انتكاسة كارثية بسقوط غوما، عاصمة إقليم شمال كيفو، في أيدي حركة “إم 23” المدعومة من القوات الرواندية. ورغم أن كينشاسا نشرت أفضل وحداتها القتالية وأسلحة ثقيلة لحماية المدينة، إلا أن انهيار الدفاعات كان سريعًا، مما أدى إلى تراجع الروح المعنوية للجنود. وبحسب مراقبين في إقليم جنوب كيفو المجاور، فإن تداعيات هذه الهزيمة انعكست على بقية الجبهات، حيث انتقل الصراع إلى مناطق جديدة وسط حالة من الارتباك في صفوف الجيش.

أمام هذا الفشل العسكري، لجأت كينشاسا إلى تجنيد ميليشيات محلية تُعرف باسم “وازاليندو” أو “الوطنيين” بالسواحيلية، في محاولة لتعويض العجز العسكري الرسمي. إلا أن هذه الميليشيات، رغم اندفاعها الوطني، تفتقر إلى التدريب والتجهيز اللازمين لمواجهة قوات منظمة ومجهزة مثل “إم 23″، ما جعلها عاجزة عن إيقاف تقدمها. في المقابل، لم تكتف بعض الوحدات النظامية بالانسحاب من المواجهة، بل تورطت في انتهاكات ضد المدنيين، بينما رفضت وحدات أخرى التوجه إلى الخطوط الأمامية احتجاجًا على تأخر دفع رواتبها.


التدخل البوروندي والأوغندي في شرق الكونغو: تعقيد إضافي للأزمة

دفعت بوروندي -هي الأخرى- بنحو 10 آلاف جندي إلى إقليم جنوب كيفو، مصحوبين بـ2500 مقاتل لدعم الجيش الكونغولي. ورغم افتقار هذه القوات إلى المهارات القتالية العالية، إلا أنها تتفوق ميدانيًا على الجيش الكونغولي، الذي يعاني من أوجه ضعف هيكلية مزمنة. ومنذ أسابيع، انخرطت القوات البوروندية في المعارك إلى جانب نظيرتها الكونغولية، مما زاد من حدة الخلاف الدبلوماسي بين كيغالي وبوجومبورا، إذ تتبادل العاصمتان الاتهامات بتأجيج التوترات العرقية في منطقة لا تزال جراح الإبادة الجماعية لعام 1994 ماثلة فيها.

على الجانب الآخر، دخل الجيش الأوغندي المشهد منذ عام 2021، حيث تمركزت قواته في المناطق الشمالية من مقاطعة شمال كيفو وإيتوري، على تخوم مناطق سيطرة حركة “إم 23”. ويقدر عدد الجنود الأوغنديين المنتشرين بين 2000 و4000 مقاتل، ضمن عملية عسكرية مشتركة تُعرف باسم “الشجاعية”، تستهدف القوات الديمقراطية المتحالفة (ADF)، وهي جماعة إسلامية مسلحة تنشط في المنطقة.

وكشف خبراء الأمم المتحدة عن دور استخباراتي “نشط” لجواسيس أوغنديين في تقديم الدعم لحركة “إم 23″، وهو ما يعكس، وفقًا لمحللين، مساعي كامبالا لتوسيع نفوذها في شرق الكونغو تحت غطاء العملية العسكرية المشتركة. ومع تصاعد الهجمات الأخيرة للحركة، خاصة في غوما، سارعت أوغندا إلى إرسال مئات الجنود معززين بأسلحة ثقيلة، بما في ذلك الدبابات، لدعم عملياتها في المنطقة.

أما جنوب أفريقيا، فقد دفعت بعدة آلاف من جنودها إلى شرق الكونغو لدعم الجيش الكونغولي في مواجهة تمدد المتمردين. ورغم أن القوات المنتشرة في غوما لا تزال متمركزة داخل قواعدها العسكرية دون تدخل مباشر، فإن الأيام القليلة الماضية شهدت إرسال تعزيزات إضافية من بريتوريا إلى مطار مدينة لوبومباشي في جنوب شرق الكونغو، في مؤشر واضح على تصعيد الوجود العسكري الجنوب أفريقي في الأزمة المتفاقمة.


البعد الدولي

رغم جميع ما سبق، تُعد الحرب في شرق الكونغو الديمقراطية أكثر من مجرد صراع محلي وإقليمي، فهي انعكاس لتنافس عالمي على ثروات البلاد الهائلة، خاصة الذهب والكولتان والكوبالت، التي تُعد أساسية للصناعات التكنولوجية المتقدمة. تتحكم الكونغو في نسبة كبيرة من الإنتاج العالمي لهذه المعادن، ما يجعلها محط أنظار القوى الكبرى، حيث تسعى واشنطن إلى تقليل النفوذ الصيني على سلاسل التوريد، بينما تواصل بكين استثماراتها في المناجم عبر صفقات غير متكافئة. هذا التنافس الدولي يزيد من تعقيد الصراع، حيث تستخدم الدول الكبرى وكلاء محليين وإقليميين لتعزيز نفوذها، بينما تعمل شركات التعدين متعددة الجنسيات على ضمان استمرار الفوضى لحماية مصالحها.

في هذا السياق، برزت ظاهرة المرتزقة الرومانيين كأداة غير مباشرة لحماية المصالح الغربية في عمليات التعدين، إلى جانب شخصيات مثل الملياردير الإسرائيلي دان جيرتلر، الذي استغل الفساد السياسي في الكونغو لعقد صفقات مشبوهة تمنحه السيطرة على الموارد الطبيعية. ورغم فرض عقوبات عليه، إلا أنه عاد للمشهد مستفيدًا من نفوذه الممتد بين تل أبيب وواشنطن. هذا الوضع يعكس حقيقة مريرة: القوى الكبرى لا ترغب في استقرار الكونغو، بل في استمرار الفوضى التي تتيح لها نهب ثرواتها دون رادع، بينما تبقى البلاد ساحة مفتوحة للتنافس الدولي على حساب أمنها وسيادتها.

وفي الأيام الأخيرة، تصاعد التوتر بين رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا والرئيس الرواندي بول كاغامي، حيث تبادل الطرفان الاتهامات، بل وصل الأمر إلى التلويح بمواجهة مباشرة في أراضي الكونغو. رواندا، من جهتها، تبرر دعمها لحركة “إم 23” بكونها تدافع عن حقوق أقلية التوتسي التي تتعرض، بحسب روايتها، لمحاولات إبادة على غرار ما حدث في الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. في المقابل، تتزايد المطالب الإقليمية والدولية بضرورة فرض عقوبات على كيغالي، متهمةً إياها بأنها المحرك الرئيسي وراء المجازر المستمرة في شرق الكونغو. وفي هذا السياق، اتخذت دول أوروبية بالفعل إجراءات عقابية ضد رواندا، لكن كاغامي لا يزال متمسكًا بموقفه، متجاهلًا الضغط الدولي ومتحديًا أي محاولة لثنيه عن دعمه لحركة “إم 23”.


وسط هذا المشهد العسكري المتداخل، تتضح ملامح معركة نفوذ إقليمية لا تقتصر فقط على المواجهات الميدانية، بل تمتد إلى صراعات استخباراتية وسياسية تعيد تشكيل خريطة التوازنات في قلب القارة الأفريقية.

شارك

مقالات ذات صلة