مدونات

التوتر النفسي والبعد الوجودي في رواية “الخوف” لستيفان زفايغ

فبراير 25, 2025

التوتر النفسي والبعد الوجودي في رواية “الخوف” لستيفان زفايغ

لقرع محمد أمين

 

رواية الخوف للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ (1881-1942) تتجاوز كونها مجرد حكاية خيانة زوجية، لتغوص في عمق التوتر النفسي والقلق الوجودي، موظفةً السرد النفسي والتقنيات الأدبية الحديثة لصياغة بورتريه داخلي لشخصية تعاني اضطرابًا نفسيًا متصاعدًا. يستند زفايغ إلى البعد السيكولوجي ليكشف آليات الخوف كمحفز درامي، ما يجعل الرواية نصًا متماسكًا من حيث البناء النفسي والتأمل الأخلاقي.

تدور أحداث الرواية حول إيريني فاغنر، وهي امرأة من الطبقة البرجوازية في فيينا، متزوجة من ألبرت فاغنر، المحامي الناجح ذو المرتبة الاجتماعية الراقية. لكن رغم حياتها المستقرة والمرفّهة، تدخل إيريني في علاقة عاطفية سرية مع عشيق شاب، مدفوعة بالملل والرغبة في الإثارة. إلا أن حياتها تأخذ منعطفًا مرعبًا عندما تبدأ امرأة غريبة في ملاحقتها وابتزازها ماليًا، مهددة إياها بفضح خيانتها لزوجها. مع تصاعد التهديدات، يتحول خوف إيريني إلى هاجس مدمر، لتعيش في حالة من الرعب والتوتر المستمر، حتى تصل إلى نقطة الانهيار النفسي. لكنها تكتشف في النهاية أن كل ذلك لم يكن سوى خطة دبرها زوجها، الذي كان على دراية بعلاقتها، إلا أنه لم يواجهها مباشرة، بل اختار أن يجعلها تعيش عذاب الخوف والتأنيب كعقوبة نفسية على خيانتها. تأتي النهاية كصدمة مأساوية، حيث تدرك إيريني أن خوفها لم يكن سوى انعكاس لذنبها الداخلي، وليس تهديدًا حقيقيًا من العالم الخارجي.


الشخصيات: البنية السيكولوجية والتمزق الداخلي:

إيريني فاغنر: البطلة التي تعيش في دائرة الخوف، تمثل نموذجًا للشخصية القلقة، حيث تتجسد في مسيرتها ثنائية اللذة والهلع من تبعاتها. تتحول علاقتها العاطفية مع عشيقها إلى مصدر تهديد، ما يدفعها إلى مسار متصاعد من التوتر.

ألبرت فاغنر: زوجها، شخصية مستقرة عقلانيًا، يمثل النقيض التام لإيريني، حيث يعكس الصرامة الأخلاقية التي تزيد من حدة صراعها الداخلي.

المرأة المبتزّة: العنصر الذي يحوّل الرواية من قصة خيانة مألوفة إلى دراما نفسية، حيث تمثل حضورًا شبحيًا للضمير المعذَّب، وتشكّل تجسيدًا للخوف نفسه، سواء كان واقعيًا أم وهميًا.


البنية السردية: تصاعد درامي محكم

يستخدم زفايغ بأسلوبه المشوق سردًا خطيًا لكنه يعتمد على التدرج النفسي في تكثيف المشاعر، ما يخلق تصعيدًا سرديًا قائمًا على الاحتدام الداخلي بدلًا من الحدث الخارجي وحده. يبدأ النص بمناخ يوحي بالراحة، ثم تنزلق البطلة تدريجيًا إلى دوامة من الخوف المتنامي حتى تصل إلى لحظة الذروة.

تقنية الاستبطان النفسي: يعتمد زفايغ على وصف دقيق لحالة البطلة عبر تيار الوعي الداخلي، مستخدمًا جملًا قصيرة متقطعة تعكس توترها المتزايد:
كانت تحس كأنها حبيسة تابوت – يرهق آخر قوى إيريني ويسلمها إلى ضيق ما…”

توظيف المكان في الرواية: المكان ليس مجرد خلفية، بل رمز نفسي عميق. فالشوارع المظلمة التي تقطعها إيريني تمثل ضيق العالم من حولها، بينما البيت، الذي كان ملاذًا آمنًا، يصبح فضاءً خانقًا يستحيل العيش فيه بطمأنينة.


ثيمة الخوف: البعد الفلسفي والنفسي

الخوف كعقوبة ذاتية: يظهر الخوف بوصفه آلية عقاب داخلية، حيث يتحول من إحساس خارجي إلى قوة داخلية تلتهم البطلة.

البعد الأخلاقي: رغم أن زفايغ لا يصدر أحكامًا أخلاقية مباشرة، إلا أنه يعكس كيف أن الشعور بالذنب قد يكون أقسى من العقاب الفعلي.

البعد الوجودي: تعكس الرواية فلسفة الوجود القلِق، حيث تصبح الشخصية غارقة في دوامة لا مخرج منها، ما يجعل الرواية تقترب من الطابع الكافكاوي في تصوير الإنسان العالق في مأزق نفسي واجتماعي.


الأسلوب: التكثيف النفسي والتلاعب بالزمن

الإيقاع السردي: يعتمد زفايغ على إيقاع متسارع، حيث تزداد الجمل قصرًا مع تصاعد التوتر، مما يعكس ارتباك البطلة.

الصور المجازية: يتم تجسيد الخوف عبر صور مرئية قوية، مما يعزز البعد التشويقي والرمزي في آنٍ معًا.

المفارقة الدرامية: القارئ يعلم أن زوجها كان يعرف بخيانتها لكنه يظل صامتًا، مما يجعل النهاية مفارقة مأساوية، حيث يتضح أن خوفها لم يكن سوى انعكاس لوهم داخلي.


خاتمة: رواية “الخوف” بين الحداثة والتحليل النفسي

رواية الخوف ليست مجرد قصة عن الخيانة، بقدر ما هي دراسة معمقة في سيكولوجيا الذنب والخوف والتوتر الوجودي. استطاع زفايغ، عبر بنية سردية متقنة، أن يحوّل حالة إنسانية عادية إلى متاهة نفسية عميقة. بأسلوبه المشوق ودقته في تصوير المشاعر الإنسانية، يرسّخ ستيفان زفايغ مكانته كواحد من أبرز من كتبوا عن أعماق النفس البشرية ومكنوناتها.

شارك

مقالات ذات صلة