تتجاهل ذاكرتي كلّ شيءٍ جرى في الحرب سوى البطولة والصمود، لعلّها حيلة ذهني ليستمرّ في المتابعة، لا أجدُ مكانًا للمأساة أستدعيه، وهكذا كنّا نتحلّق أمام التلفاز، في بيتِ خالي كبارًا وصغارًا بالساعات، نعلّقُ آمالاً ربّما لا نعرفُ صياغتها بالضبط، لكنّ نعرف يقينًا أنها على كتف هذا الرجل وهؤلاء الجند.
كان وجه السيّد حسن وصوته مع راية الحزب، هما اختزال المعركة ومازالوا، رغم ما تراكم في الذهن من معلومات وصور وقراءات (في المعارك المشابهة، أنتبه لما يؤثّر في المعركة عسكريًّا وسياسيًّا، وأدّخر الحزن على المصابات بعد أن تضع الحرب أوزارها).
أما صورته التي وزّعتها صحيفةٌ مستقلّة مع عددها، رفعناها بدل اللافتات التي لم نملك ثمنها ونحن طلّابًا (لحسن الحظ لم يباغتنا رئيس تحرير ذات الجريدة وهو يهاجم المقاومة وحركاتها الآن ويتهمهم بأبشع التهم، بينما يعيد ترديد دعاية العدو وتلفيقاته بكلّ وقاحة)، وظلّت الصورة ذاتها على جدران بيوت غالبنا حتى وقتٍ ليس ببعيد.
**
في زيارتين لـ لبنان، قضيتُ غالب الوقت بين الضاحية والجنوب (اعتبرتها نورهان -زوجتي السابقة- خدعة؛ إذ تركتها غالب الوقت لأعرف ماذا جرى في تمّوز، وماذا يجري الآن) أزورُ وأتعرّف وأناقش وأقتفي أثر ما جرى ذات تمّوز مجيد ٢٠٠٦، وفي مليتا قلتُ لنورهان عن رغبتي في إنشاء مؤسسة سياحة مقاومة، تكون خريطة مزاراتها حول العالم من مليتا لغزة لچنين لميدان التحرير لساحة أمّهات مايو، وظلّت الفكرة تراودني لسنين قبل تحقق الهزيمة، وفي ذهني صورة مليتا وتحديدًا التشكيل الذي أبدعه فنانون لاتينيّون إن لم تخنّي الذاكرة، لدبابات العدو التي حطمتها وسيطرت عليها المقاومة وصاغتها سطرًا في حكاية الأرض للسماء، هناك فوق جبل مليتا.
في ختام الجولة، دخلنا قاعةً كقاعات السينما، شغّلوا الشاشة وطلّ منها السيّد حسن يرحّب بالزوّار ويحكي الحكاية. وفي طريق العودة، اخترت خاتمي الذي ألبسه منذئذٍ -كما قال العمّ، واخترت صورةٌ للسيّد ضمن أشياء أخَر.
**
في المعتقل، طلبتُ من نورهان أن تُنزِل صورة الرجل عن جدار غرفتي، مع تتابع أنباء التورّط في سوريا، كان قرارًا حاسمًا، لكنه كان حزينًا؛ تمنّيتُ ألا أفعل، تمنيتُ ألا يكون الحزب هناك في أي لحظة، رغم أني قضيتُ الساعات في نقاش القرار محاولةً للفهم.
عدتُ بالصورةِ وعلّقتها على جدار غرفة مكتبي، ومنذ استشهاده تلحّ عليّ الرغبة في إخراجها، وإعادتها لجدارٍ آخر
أخجلُ من الأصدقاء السوريين، ومن نفسي على هذا الارتباك، لكنّي أرى وجهه في كل حين، باسمًا كما كان، عزيزًا كما كان
اليومَ أعودُ لبيتي منهكًا، غاضبًا وحزينًا؛ إذ منعني حصار السلطة من المشاركة في وداعه، كما أردتُ ويليق؛ فأخرجها فور وصولي، أجدُ شرخًا على زجاجها، فأمسح عنها تراب الوقتِ، وأعزم تغيير الزجاج، ولا أعرفُ لو أني سأعلّقها ثانيةً.
أذكّر نفسي: لقد اغتالوا المقاوم لأجل فلسطين حين اغتالوه، ولو سايرهم نكوصًا أو حيادًا لما فعلوا
وهذا وجهه الذي أحزنُ عليه الآن، كلّ هذا الحزن
تمامًا كما يحزن الولدُ على أبيه.