مدونات
للكاتب: لقرع محمد أمين
في عالم الأدب، هناك أعمال لا تُقرأ بقدر ما تُعاش، لا تُختصر في حبكة أو شخصيات بقدر ما تُختزل في إحساس دفين يلازم القارئ حتى بعد أن يطوي آخر صفحة. هذا ما ينطبق على رواية الأجنحة المتكسرة، فهي ليست مجرد رواية عادية، بقدر ما هي سردية بهيّة تلخص الحب والمأساة، كانت حوارًا بين المبتغى والقدر، وانعكاسًا لفلسفة جبران التي تتأرجح بين الأمل والانكسار وبين الحلم والواقع.
في رواية الأجنحة المتكسرة، يحكي جبران قصة حب مشؤومة تنمو بين السارد، الذي هو داخل الحكاية، وسلمى كرامة، المرأة التي تجسد الجمال الروحي والفكري في مجتمع تحكمه التقاليد والسلطة الذكورية. زمن السرد في الرواية مطابق لزمن القصة، واعتمد المؤلف رؤية مصاحبة. الحب بين سلمى والراوي ليس مجرد نزوة عاطفية، بل هو تجربة روحية صوفية وشعلة لا تضيء القلوب فحسب، بل تحرقها أيضًا. سلمى لم تكن امرأة عادية، وإنما رمزًا للمثالية التي يصطدم بها الواقع، ومن قرأ الرواية يدرك أنها تتأرجح بين القهر والواجب.
الحب والقدر: ثنائية تقيّد اختياراتنا
رواية الأجنحة المتكسرة تُثير تساؤلًا وجوديًا أساسيًا: هل الإنسان حر في عواطفه واختياراته، أم أنه رهينة قدر محتوم؟ إن قصة الحب التي جمعت الراوي بسلمى تبدو وكأنها تحدٍّ للقدر، لكنها في النهاية ترضخ لسلطته. يُجبرها المجتمع على الزواج من منصور غالب، الرجل الذي يمثل الفساد والسلطة، في حين يقف الحب عاجزًا، كطائر تُقصّ أجنحته قبل أن يحلق.
في فلسفة جبران، هناك تناقض بين الرغبة والواقع، وبين الحلم والحياة. يكتب عن الحب وكأنه تجربة مطلقة، لكنّ المصير لا يتسامح مع هذه المثالية، كأن الحب في جوهره فعل تمرد، دائمًا ما يصطدم بجدار لا يُرى، لكنه يُشعرنا بوجوده، كما يطوقنا بالأسئلة. هل كان على الراوي أن يستسلم؟ هل كان بإمكانه تغيير مجرى الأحداث؟ أم أن الحب في جوهره ليس إلا تجربة زائلة، كضوء قمر على مياه النهر، جميل لكنه غير ملموس؟
تأرجح المرأة في سرد جبران بين الواقعية والرمزية
سلمى ليست مجرد شخصية نسائية في رواية رومانسية، بل هي أيقونة لجبران، انعكاس لرؤيته للمرأة التي تتمزق بين الحب والواجب، وبين الأنوثة المقيدة والروح الطليقة. إنها في نظره أقرب إلى قديسة معذبة، تُعطي كل شيء للحب، لكنها لا تحصل إلا على الحزن في المقابل. ما يجعلنا نتساءل: هل كانت سلمى ضعيفة وغير قادرة على المواجهة؟ أم أن قوتها تكمن في قبولها لمصيرها بصمت نبيل؟
هنا يظهر بعد آخر في الرواية يحث على أن المرأة ليست مجرد كيان عاطفي، بل هي كائن واعٍ بقدر ما هو مكبّل. رغم أنها لم تهرب مع حبيبها، ولم تثُر على مجتمعها، إلا أنها بقيت رمزًا للمأساة النبيلة، كأنها تقاوم لا بالفعل بل بالصبر والتضحية.
هل الحب الصوفي خلاص أم لعنة؟
جبران لا يصور الحب كمتعة دنيوية، بل يرفعه إلى مستوى روحاني، بحيث يجعله شبيهًا بالحالة الصوفية، حيث يتوحد العاشقان في روح واحدة، حتى وإن فرّقت بينهما الظروف. لم يكن الحب مجرد حدث، بل تجربة تُخلّد في النفس حتى بعد الفراق، لكنه أيضًا لعنة؛ لأنه يُعطي الإحساس بالاكتمال للحظة، ثم يسلبه للأبد، ما يجعلنا نحاط بأسئلة وفيرة وأجوبة قليلة.
هل يا ترى جبران أرادنا أن ندرك أن الحب يجب أن يكون مأساويًا حتى يكون نقيًا؟ ولماذا لا يُسمح للعشاق بالوصول إلى نهايات سعيدة؟ أم أن الحب الحقيقي، وفق رؤيته، ليس في أن نحصل على من نحب، بل في أن نختبر الشعور نفسه، حتى وإن انتهى بألم؟
ماذا بعد فشل الحب؟
تنتهي الرواية كما بدأت بوجع لا شفاء منه. ماتت سلمى ومولودها الذي لم تستمر حياته أكثر من ساعات، لكن حبها في قلب الراوي ظل حيًا لا يفنى، بينما الأخير بقي وحيدًا، غير فارغ، بل ممتلئًا بذكرى تحول الحب إلى نوع من الخلود الداخلي.
هنا يكمن السرّ القابع بين صفحات الرواية: الفقدان لا يعتبر نهاية، بل ولادة جديدة لشكل آخر من الحب، ذلك الحب الذي يبقى حيًا في الذاكرة وأقوى من الواقع.
جبران خليل جبران لم يكتب قصة حب تقليدية، بل كتب تأملًا عميقًا في معنى الحب والمصير، في هشاشة الروح أمام قسوة الحياة وأغلال المجتمع. فالأجنحة قد تتكسر، لكن الرغبة في الطيران تبقى وتعمر. بأسلوبه الشاعري المعهود، يعطي رسالة للقارئ مفادها أنه قد نفقد من نحب، لكن الحب نفسه لا يفنى، لأنه الشيء الوحيد الذي لا يقدر الموت على هزيمته.