سياسة

السُّودان.. حكايات الحرب والخيانة والصُّمود… لماذا فشل حميدتي في ابتلاع السُّودان؟

فبراير 23, 2025

السُّودان.. حكايات الحرب والخيانة والصُّمود… لماذا فشل حميدتي في ابتلاع السُّودان؟

في منتصف مارس من العام 2023، وقبل اندلاع الحرب بشهر في السودان، كان يجلس نائب رئيس مجلس السيادة السوداني السابق، قائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان دقلو حميدتي، في حديقته الغناء بقصره الرئاسي بمدينة الخرطوم، مرتدياً جلباباً أبيض، معتمراً طاقية صغيرة على رأسه – المسكون بالتوجس من كل شيء؛ يثق فقط في بندقيته وجيبه المليء بالدولار، فهو على قناعة أن كل شيء قابلٌ للشراء، فقط عليك معرفة ثمنه.


كان جنرال الشر حميدتي، في تلك الليلة، يسامر عدداً من السياسيين في حديقته.. مزهواً بنفسه وكله ثقة، بأن حكم السودان قد دان له، كيف لا وتحت ملكه كنز جبل عامر، بالإضافة إلى (27) منجماً للذهب في مختلف ولايات السودان، ومليارات الدولارات في مصارف السودان والإمارات، وعشرات الشركات داخل وخارج السودان، ومئات المنازل والمشاريع الزراعية، والأهم أن عدد قوات مليشيته الدموية بلغ في ذلك الوقت (120) ألف جندي بالتمام والكمال.. ونفوذه يسيطر على بنك السودان، ويستحوذ على (30%) من منظومة الصناعات الدفاعية بأمر مباشر من رئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان – الذي أسهم بصورة كبيرة في توسيع نفوذه – بالإضافة لشركة زادنا أكبر الشركات السودانية في الزراعة.


في ذلك الوقت، كانت تلبد سماء الأجواء السياسية الغيوم السوداء، فقضية الاتفاق الإطاري، وبند دمج الدعم السريع داخل الجيش، بمثابة الشيطان في التفاصيل، وهنا بدأ حميدتي يتحسّس مسدسه، لأن دمج مليشياته داخل الجيش السوداني، يعني تلاشي حلمه بحكم السودان منفرداً، وبالتالي انهيار إمبراطورية (آل دقلو).

فبدأ حميدتي في وضع العقبات أمام قضية الدمج، وتمترس في بند (القيادة والسيطرة)، وأنهم لن يخضعوا لإمرة الجيش، بل سيكونون تحت إمرة رئيس مجلس سيادة ورئيس وزراء مدني. أو هكذا كان يناور لكسب الوقت.


حميدتي قال لرهطه من الساسة، في تلك الليلة أعلاه، إنه لن يسلم سلاحه ويدمج قواته، إلا عقب دمج بقية الحركات المسلحة الأخرى، مثل حركات (مناوي وجبريل وعقار والهادي إدريس والطاهر حجر).. وأضاف: “إن دمجت قواتي الآن، فسيبتلع هؤلاء السودان، ويتحالفون للقضاء على حلم الدولة المدنية… أنتم عليكم دخول الانتخابات وسندعم خطواتكم، وسنساند مرشحكم”.

ومضى في القول وهو يضع ابتسامة واسعة على وجهه: “أما في الدورة الانتخابية الثانية، سأخلع بزتي العسكرية، وأسلم سلاحي، وأترشح لرئاسة الجمهورية، ولن تستطيعوا منافستي.. فضج رهطه فرحين، مباركين قوله”.

بينما حميدتي يتلكأ في عملية الدمج، كان كل يوم يشتري ولاء الإدارات الأهلية ورجال الدين وقادة أحزاب وضباط كبار في مختلف القوات النظامية.

وبدأت ملامح المخطط الإقليمي لابتلاع السودان تظهر ملامحه، حيث ترسمه تل أبيب بعناية – حيث وفّرت لحميدتي أحدث أجهزة وبرامج التجسُّس الإسرائيلية – ويتبناه وكلاؤها في المنطقة، والأخطبوط طه عثمان الحسين، المدير الأسبق لمكاتب الرئيس المخلوع عمر البشير، الذي يعتبر رجل الوكلاء الأمين على مصالحهم.

وطه عثمان يشدد على حميدتي بضرورة حشد قوات المليشيا إلى الخرطوم بكل ترسانتها العسكرية، ليكونوا على أهبة الاستعداد، لساعة صفر، لتنفيذ الانقلاب الخاطف السريع للإطاحة بالبرهان وأركان حربه، اعتقالاً أو قتلاً.


تقول المصادر إنّ حميدتي نجح في تدريب (18) ألف جندي من نخبة عرب الرزيقات -مكونه القبلي- على حرب المدن، على يد مليشيا فاغنر الروسية، حيث وصل إلى اتفاق مع قائدها حينئذٍ، يفغيني بريغوجين، لتدريب الدعم السريع مقابل الذهب.

في الأول من رمضان للعام 2023، تمكنت المليشيا من إدخال (60) ألف مقاتل من الولايات إلى الخرطوم، ونشرهم في مختلف معسكراتها التي تحيط بالعاصمة إحاطة السوار بالمعصم.

كل التقارير التي كانت ترفعها مختلف الأجهزة الأمنية إلى البرهان، تشير إلى أن حميدتي وقواته يبيتون الشر، والبرهان لا يحرك ساكناً. ويعزي زملاء البرهان، هذا الأمر لطبيعة الرجل وبطئه في اتخاذ القرار. ويقولون: “البرهان مقاتل شرس على أرض المعركة، لا يخاف، لكنه لا يتخذ القرارات المصيرية إلا إذا أحس بالخطر”.


في ظل تعقيدات المشهد السياسي، والأزمة التي طفت على السطح، وحشود المليشيا الجرارة في الخرطوم، بلغ الغرور بحميدتي، أن يتحدث علناً في عدد من لقاءاته مع سياسيين ورجال أعمال، ويكيل السباب والشتم إلى الفريق أول البرهان. بل في نهار السابع من رمضان قال لمجموعة سفراء غربيين وعرب: “البرهان إذا لم يمضِ في الاتفاق الإطاري هذا، سأقـوم بتصفيته، وانتهي منه تماماً”.. أعين وأذان أجهزة الاستخبارات كانت ترصد هذا اللقاء، وأبلغت قوات الحرس الرئاسي بمدى خطورة الأمر، وأن عليهم الاستعداد 100% والتحسب لكافة السيناريوهات.

قائد الحرس الجمهوري اللواء، نادر المنصوري، جهّز وأعدّ قواته وأطلعهم على التفاصيل الكاملة، لما يُحاك في الظلام، من قبل حميدتي ومليشياته، ووضع خطة محكمة لحماية رئيس مجلس السيادة، القائد العام للقوات المسلحة، من كل المخاطر.


وبالفعل في صباح 15 أبريل، هاجمت المليشيا مقر إقامة البرهان في بيت الضيافة، الذي يقع على مرمى حجر من منزل حميدتي، واقتحمت بيت الضيافة بعربة (بوكلن) هدت به سور البيت، الذي تم حصاره بما يقارب (200) عربة قتالية تتبع للمليشيا.

هاجمت المليشيا بيت الضيافة لعشر ساعات متواصلة وبنيران كثيفة، واستبسل الحرس الرئاسي، في معركة أسطورية، استشهد فيها نحو (35) ضابطاً وجندياً من نخبة الحرس الرئاسي، ولم يمكنوا المليشيا من تنفيذ مخططها بقتل أو أسر القائد العام للجيش. ونجح اللواء المنصوري ورجاله بعد ذلك في إجلاء البرهان إلى موقع آمن داخل مقر الحرس الجمهوري بالقيادة العامة.

في ذات الوقت، تم إجلاء نائب القائد العام للجيش الفريق أول شمس الدين كباشي.

بهذا الصمود الكبير للحرس الرئاسي، لم يتمكن حميدتي من تنفيذ مخططه، بإعلان استلامه السلطة وإذاعة بيانه من داخل القصر الجمهوري، الذي وصله فعلياً وكان في انتظار وصول إشارة له بأنه تم القضاء على البرهان أو أسره.

حميدتي ومن خلفه لم يدر بخلدهم، أن يفشل مخططهم، وكانت تقاريرهم تفيد أن الجيش السوداني في أضعف حالاته، وأقل تعداداً من المليشيا، وأن انهياره أمرٌ حتميٌّ، وأن وحداته ستسلم وتدخل تحت إمرة حميدتي، عقب الانتهاء من البرهان وأعضاء مجلس مجلس السيادة العسكريين وهيئة الأركان بقيادة الفريق أول محمد عثمان الحسين.

الجيش، بدأ في امتصاص الصدمة، ومضى في خيار الحفاظ على عموده الفقري وعدم التضحية بقواته، وشرع في استدراج المليشيا إلى أرض الموت. ونجح في قتل عشرات الآلاف من القوة الضاربة المؤهلة عسكرياً من قادة ومقاتلي مليشيا الدعم السريع.

وخلال الأربعة أشهر الأخيرة، تمكن الجيش السوداني من تحقيق سلسلة انتصارات مهمة في معاركه الضارية ضد الدعم السريع، حيث استعاد السيطرة على جبل مويا، واسترد سنجة عاصمة ولاية سنار، وقام بتحرير مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة ومئات المدن والقرى بالولاية حتى حدود الخرطوم.

كما نجح في تطهير محلية بحري، كانساً المليشيا من مصفاة الجيلي، وفك الحصار عن القيادة العامة للقوات المسلحة بعد حصار قارب العامين عبر التحام قوات أم درمان مع سلاح الإشارة واستعاد مدينة أم روابة.


انتصارات الجيش الأخيرة نبعت من عدة عوامل؛ أولها انضمام أكثر من 40 ألف مقاتل جديد إلى صفوف الجيش، تنوّعوا بين المتطوعين والمقاومة الشعبية والعمل الخاص، كما انحازت حركات الكفاح المسلح (جبريل ومناوي وعقار) إلى صف الجيش.

في وقت مثل انشقاق قائد المليشيا في ولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل وقواته من حميدتي وانضمامهم إلى الجيش، نقطة فارقة، حيث كشف تجمعات وتحرُّكات وتكتيكات ومخازن المليشيا في الولاية، وحاربها بذات أدواتها وطرق قتالها.

العامل الثاني هو الدعم الكبير الذي حصل عليه السودان، من دعم لوجستي ودبلوماسي من دول صديقة وشقيقة.


الاصطفاف الشعبي الكبير خلف الجيش، يعتبر من العوامل الاستراتيجية، الذي تحطمت امامه احلام حميدتي في ابتلاع السودان. فالحكم يحتاج للبناء والتعمير وتلبية احتياجات الشعب، لكن مليشيا الدعم السريع، لا تعرف إلا الخراب والدمار والموت، وارتكبت مجازر وتطهيراً عرقياً واغتصاباً وتشريداً ونزوحاً ونهباً وسرقة في كل شبر وطأته أقدامهم، الأمر الذي أدى إلى كره الشعب لهم وغضبه عليهم والتفافه حول قواته المسلحة.

وطوال عامين لم يستطع حميدتي من تكوين أي نظام حكم في أي من المناطق التي تخضع لسيطرته، لغياب المشروع والبرنامج والسياسات التي يستمد منها الحكم، فهو وأتباعه مجرد (روبوتات) برمجها سادتهم من أجل مص خيرات السودان، وإضعافه حتى يدين لهم، وينهبوا خيراته، واتخاذ موقعه الاستراتيجي قواعد لهم في لعبة الشرق الأوسط الجديد.

شارك

مقالات ذات صلة