مدونات
للكاتب: عبد الرحمن حسنيوي
يقول كارل ماركس: “الرأسمالية ستجعل كل الأشياء سلعًا، وستسلبها قداستها.”
في ظل النظام الرأسمالي الحديث، يتحول العالم تدريجيًا إلى آلة ضخمة تُديرها قوانين السوق، فتفرض إيقاعًا لا يرحم على حياة الأفراد والمجتمعات، حيث تُختزل القيم الإنسانية في حسابات اقتصادية، ويُسحق الإنسان بين مطرقة الإنتاج وسندان الاستهلاك، في دوامة لا تنتهي من الضغوط المادية والنفسية. فالهيمنة الرأسمالية تُعيد تشكيل الإنسان نفسه، فتحوله إلى عامل اقتصادي يُقيَّم بقدرته على الإنتاجية وقابليته للاستهلاك.
يرى كارل ماركس أن هذا النظام يحوِّل العامل إلى امتداد للآلة، حيث يفقد إنسانيته في سبيل تحقيق الربح، لأن العمل الذي كان يُعتبر وسيلة للتطور الشخصي أصبح عبئًا يثقل الروح، ويُضعف القدرة على الإبداع والاستمتاع بالحياة. فساعات العمل الطويلة، القلق المستمر على المستقبل، وضغوط الإنجاز المهني تدفع الفرد نحو حالة من الإرهاق الجسدي والنفسي، حيث يُجبر على التضحية بأحلامه ووقته الثمين من أجل البقاء في السوق.
تظهر هذه الأزمة بشكل أكثر وضوحًا في العلاقات الاجتماعية. يُشير إريك فروم إلى أن النظام الرأسمالي يُغذي مفهوم الاغتراب، حيث يفقد الإنسان ارتباطه الحقيقي بذاته ومحيطه، فتُختزل العلاقات الإنسانية في معاملات مادية، وتُصبح الصداقة وسيلة لتحقيق المصالح، والعلاقات الأسرية مُثقلة بالضغوط المادية، بينما يذوب التضامن الذي كان يُعتبر جوهر المجتمعات تحت وطأة الفردية المفرطة، ليترك الأفراد معزولين في سعيهم اللاهث وراء “النجاح” كما يعرّفه السوق.
في سياق النظام الحديث، يُعاد تعريف النجاح بمقاييس استهلاكية بحتة، وتُروِّج ثقافة الاستهلاك لفكرة أن السعادة تكمن في امتلاك المزيد، مما يدفع الأفراد إلى البحث عن الرضا من خلال شراء المنتجات والخدمات، بغض النظر عن الحاجة الفعلية لها. يُشير جان بودريار إلى أننا لا نستهلك السلع فقط، بل نستهلك الرموز والمعاني التي تمثلها، فتُصبح المنتجات انعكاسًا للمكانة الاجتماعية، مما يعمق الشعور بعدم الاكتفاء ويُدخل الإنسان في سباق دائم لتحقيق صورة مثالية يفرضها السوق، والنتيجة هي شعور مستمر بالفراغ واللاجدوى، حيث تُستبدل السعادة الحقيقية برغبة مُصطنعة لا تنتهي.
أما التفاوت الطبقي الذي يخلقه هذا النظام، فهو واقع يراه الجميع، حيث تُراكم الشركات الكبرى أرباحًا هائلة على حساب العمال الذين يُكافحون في ظروف قاسية لتلبية متطلبات السوق. فالدول النامية تُستغل بلا هوادة، حيث يُدفع الأفراد فيها إلى تقديم جهدهم بأدنى الأجور لتلبية احتياجات الاقتصادات الكبرى. يرى فرانتس فانون أن الاستغلال ليس عَرَضًا جانبيًا للرأسمالية، بل هو جوهرها، حيث تُركَّز الثروة في أيدي قلة قليلة، بينما تُترك الأغلبية لمواجهة أعباء الحياة وحدها. هذه الهيمنة الاقتصادية تؤدي أيضًا إلى أزمات نفسية عميقة، فالفرد يُحاصر بين ضغط الإنجاز وتوقعات المجتمع، فيغرق في مشاعر القلق والاكتئاب، والعمل الذي يُفترض أن يكون مساحة للتعبير عن الذات يتحول إلى مصدر للتوتر والإرهاق.
في ظل هذه الظروف، يفقد الإنسان إحساسه بالسيطرة على حياته، ويُصبح أسيرًا لنظام لا يترك له فرصة للتنفس أو التفكير. ومع ذلك، هذا الواقع لا يعني أن التغيير مستحيل، فهناك أمثلة تُثبت أن تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية ليس حلمًا بعيد المنال. على سبيل المثال، النموذج الإسكندنافي يُظهر كيف يمكن بناء أنظمة تُعلي من شأن الإنسان، حيث تُحقق الرفاهية الاجتماعية دون التضحية بالقيم الإنسانية.
في هذا السياق، يدعو الفيلسوف أمارتيا سِن إلى إعادة تعريف التنمية بحيث تُركِّز على تعزيز الحريات الإنسانية بدلاً من تكديس الثروات. هذه الرؤية تُقدِّم أملًا في إمكانية إيجاد نظام أكثر عدلًا وإنسانية. أما التغيير، فيتطلب إعادة النظر في أولويات المجتمعات وتوجهاتها، وعلينا أن نسأل أنفسنا: ما هي الغاية من الاقتصاد؟ وكيف يمكننا بناء نظام يخدم الإنسان بدلاً من استعباده؟ الحل يبدأ بتعزيز قيم التضامن والعدالة، وبناء اقتصاد قائم على توازن حقيقي بين الاحتياجات الإنسانية والمصالح المادية.
في الأخير، إن الحياة اليومية في ظل النظام الرأسمالي الحديث قد تكون مليئة بالمعاناة والضغوط، لكنها تحمل أيضًا فرصة لإعادة التفكير، لأن التغيير ليس خيارًا، بل ضرورة تُمليها الحاجة إلى بناء عالم يُقدِّر الإنسان وقيمته الحقيقية. إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بشكل يُعلي من شأن الإنسان على حساب المصلحة المادية تُعد الخطوة الأولى نحو مستقبل أكثر عدلًا وإنسانية. فالتحدي يكمن في أن نُعيد صياغة الحاضر من أجل غد تُحتَرم فيه الكرامة، وتُعلَّى فيه القيم، ويُعاد فيه للإنسان دوره كمحور الكون، لا مجرد أداة في آلة الربح.