أدب
نسيان العثمانيين والأتراك وتذكُّر أوروبا
الرواية العربية وُلدَت لتتحدث عن أوروبا، هكذا وضَّح الناقد المرموق عبد الفتاح كيليطو، وعن علاقتنا بأوروبا تتحدث الروايات العربية، وهذا مستمر إلى اليوم، السفر إلى الغرب أو العودة منه نقطة منتشرة في الروايات العربية، مع التحفظ على هذا التعميم لكنه ينبِّهنا لموقع الغرب في خيالنا الحديث.
ودليل كيليطو على ذلك أول رواية عربية، وهي رواية زينب لمحمد حسين هيكل التي صدرت عام 1913، إذ كتبها هيكل في باريس حينما كان يدرس القانون، مع التحفظ على دقة كلمة “أول” رواية، فلا يجوز استعمال هذه الكلمة لا في الأدب ولا في الحب!
ولقد شعرت بهذه الملاحظة عندما تخيلت السرد العربي الذي يقف باهتمام مع رحلة رفاعة الطهطاوي في تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ورواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، ورواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، وطبعًا رواية يَحيَى حَقِّي قنديل أم هاشم، التي يسافر فيها البطل إسماعيل إلى الغرب.
لاحظت نسيانًا لعلاقة المصريين والأدباء بتركيا، سواء في المرحلة العثمانية أو حتى في مرحلة أتاتورك والجمهورية، نتخيل النخبة المصرية تسافر إلى أوروبا وتتفاعل معها، لكنّ بين مصر وتركيا تفاعلًا سابقًا حدث لسنوات طويلة، أريد في هذه المقالة التذكير بهذه العلاقات الثقافية كما تظهر في قصص حياة الأديب يَحيَى حَقِّي.
أخُصُّ ما يذكره الكاتب محمد جبريل في كتابه مصر في قصص كتابها المعاصرين: “ظلّت السيطرة التركية ميسمًا للحياة في مصر، إلى حد أن سلامة موسى يشبِّه المجتمع المصري في أوائل هذا القرن بأنه كان تركيًّا أو كالتركيّ، «فكان الاصطياف في إسطنبول مألوفًا، وكانت الحكومة المصرية تؤدي “الجزية” السنوية لتركيا، وكانت العائلات الغنية عائلات تركية خالصة أو خلاسية، وقلَّما كنا نجد مصريًّا ثريًّا”، كما في كتاب تربية سلامة موسى، وتروي فاطمة اليوسف (روزاليوسف) في ذكرياتها أن الأرستقراطية المصرية كلها كانت تقضي أشهر الصيف على ضفاف البوسفور.
كما يروي يَحيَى حَقِّي أن الخديو عباس الثاني كان يبدأ إجازته الصيفية كل عام بزيارة إسطنبول، ليقبِّل أعتاب الخليفة، ويسلِّم على الصدر الأعظم في الباب العالي، وكان سراة مصر يقصدون أيضًا إسطنبول لشَمّ الهواء والرجوع برتبة.
يَحيَى حَقِّي في الخارجية المصرية
لاحظت من خلال تَتبُّعي سيرة الأديب يَحيَى حَقِّي عدم الانتباه لسنواته المهمة في حياته، وهي سنواته في تركيا بعد سقوط الخلافة، فقد سافر إليها منذ عام 1930 وعمل فيها لمدة أربع سنوات إلى عام 1934، والبداية كانت في ليل الصعيد الصامت حيث كان يعمل يَحيَى حَقِّي، يقلّب في صفحات جريدة، عندما وقعت عيناه على إعلان مصادفة، ولقد كان حافظ عفيفي وقتها وزيرًا للخارجية، وقررت الوزارة عقد مسابقة للالتحاق بوظائفها، وقدّم يحيى في المسابقة، ونجح، وانتقل من قرية منفلوط في الصعيد إلى الخارج، من سلك الشعب إلى السلك الدبلوماسي، قفز من طبقة الغلابة لينتمي إلى طبقة الخارجية وأولاد الأعيان.
لقد وزع حَقِّي آراءه عن هذه المرحلة من حياته في عدة كتب متفرقة، هل أدلّك على فصل قصير يضمّ سيرة عظيمة؟ الفصل بعنوان “أشجان عضو منتسب“، وهو يحتوي على نتف من سيرة حَقِّي الذاتية!
ما أرهف يَحيَى حَقِّي حينما يكتب عن نفسه: “التحدث عن النفس يا له من لذة ساحرة، تواضعها زائف! أغلب أحاديثنا -بعد كلمتين ليس غير- تتحول من الموضوع -أيًّا كان- إلى الذات، الشكوى أو الافتخار، ولكني أحسّ أنهما ينبعان من نزعة واحدة متكتمة: استجداء تبرير الوجود”. وعلى الرغم من هذه الحساسية من الحديث عن الذات، تَكلَّم يَحيَى حَقِّي عن حياته في الكتب والمقالات المتفرقة.
حَقِّي في إسطنبول في السفارة المصرية
انتقل يَحيَى حَقِّي من جدة إلى إسطنبول سنة 1930م، حكى لنا عن ذكرياته في الحجاز في كتاب بعنوان “كناسة الدكان“، كان العنوان الأصلي لهذا الكتاب «كُنَّاشة الدكان»، وقد تغيرت كلمة «كناشة» بخطأ من سامي فريد إلى «كناسة»، واغتفر يَحيَى حَقِّي الخطأ، ثم تحول الغفران إلى قبول الخطأ فوافق على «استمرار» كلمة “كناسة”.
يصل حَقِّي إلى تركيا لكي يمثِّل مصر، هو الآن قارئ ناضج نهم إلى المعرفة، مسلم في دولة تتحوَّل عن الدين، سيكون عمله أمينًا لمحفوظات قنصلية إسطنبول.
وفي تركيا أُتيحَ لحقي أن يرقب من قرب تلك التجربة الخطيرة التي أجراها مصطفى كمال أتاتورك حين حَوَّل دولة شرقية إسلامية إلى دولة علمانية حديثة ينفصل فيه الدين عن الدولة، وقد قرأ حَقِّي عن مصطفى كمال كثيرًا والتقاه أكثر من مرة.
وفي إسطنبول اعتمر حَقِّي القبعة لأول مرة، وتَعلَّم أن للقبعات علمًا وأصولًا، وأن ما يصلح للنهار أو الرحلات لا يصلح للمساء أو السهرة، وأن لكل زيٍّ القبعة التي تتناسب معه، واضطُرّ -بحكم الوظيفة الدبلوماسية- إلى شراء ستة أنواع مختلفة من القبعات، بالإضافة إلى الطربوش.
وبذهابه إلى تركيا، عاد حَقِّي إلى الأرض التي هاجر منها جده، فهو من أصل تركي، وعثر هناك على أقرباء له سكن عندهم، كما تعلم التركية على كبر وأتقنها، فلم تكن اللغة التركية تُستخدم في بيتهم إلا للسباب في لحظات الغضب. كل ما تَعلَّمه منها في مصر لا يزيد على كلمات مثل: أدب سيس، خرسيس، سكتر بره…
وحاول حَقِّي الاتصال بأدباء تركيا، وأسعده الحظ بمقابلة الشاعر عبد الحق حامد (شكسبير تركيا) في أخريات أيامه، والشاعر يحيى كمال، ولكن لم يعثر على الشاعر محمد عاكف وعلم أنه فر من تركيا بعد الحركة الكمالية، وأقام في مصر زمنًا، وعاكف هو واضع النشيد الجمهوري التركي.
موقف يَحيَى حَقِّي من أتاتورك
يقول الكاتب محمد جبريل في كتابه “قراءة في شخصيات مصرية” عن يَحيَى حَقِّي: “والحق أنِّي لم أرَ كاتبًا يعتزّ بعروبته وإسلامه، مثلما يعتزّ يَحيَى حَقِّي”، ثم يستشهد بما كتبه حَقِّي عن أتاتورك، وما فعله في حياة الشعب التركي، يقول: “ظَنّ أتاتورك أن الدين الإسلامي في ثوب هذا الشعب قملةٌ تُقصَع بظفر مخمور على رخامة بار، فإذا به ماسةٌ صلدة. يا لها من ماسة لا تحطِّمها كل معاوله! ليس أحمقَ مِن رجلٍ يهاجم في العصر الذي نعيش فيه دينَ رجلٍ آخر، فما بالك بحماقة من يفعل هذا بأُمَّة عن بكرة أبيها؟ لم يثُر الشعب التركي على مصطفى كمال، لا خوفًا من بطشه، بل إكرامًا له لأنه أنقذه من التمزُّق والعبودية، واستلاب الأجنبي لأرضه. اكتفى بأن رمى طوبته، تركه للزمن، نفَّذ له جميع أوامره على الرأس والعين، ولكن من وراء سد لا تراه العيون، هذا السد هو إيمانه بدينه، له أن يتحكَّم في تصرفاته لا في قلبه”.
ويوضح حَقِّي في كتابه “عشق الكلمة” عن أثر إلغاء الحرف العربي، أنه “ينبغي الإقرار بأن كتابة الأتراك للغتهم بالأحرف العربية كان لها فضل كبير في تحسين مشق الخط العربي المطبوع، ولا مفرّ من الاعتراف بصدق المثل القائل: “نزل القرآن في مكة وكُتب في إسطنبول وتُلي في مصر”.
وقد شهِد حَقِّي بنفسه كيف أمر مصطفى كمال ذات يوم بالتحول إلى الأحرف اللاتينية، وبار عمل جميع أساتذة الخطّ العربي من مكتوب ومطبوع في تركيا، وكم تَمنَّى حَقِّي أن يهاجر هؤلاء الأساتذة إلى مصر فهي أولى بهم.
ويقول حَقِّي في كتابه صفحات من تاريخ مصر: “وكنت في مدينة جدة بالحجاز يوم إلغاء الخلافة، فرأيتُ جميع قناصل الدول الاستعمارية (وكلهم من رجال وزارة المستعمرات لا الخارجية) يقيمون الحفلات ويسكرون ابتهاجًا بهذا الإلغاء”. وهذا الخبر فيه مشكلة في دقة التاريخ، إلغاء الخلافة كان عام 1924، لا يتزامن مع سنوات عمل حَقِّي في جدة، فقد بدأ حَقِّي عمله في قنصلية مصر في جدة مارس 1929، ولو أحسنَّا الظن بذاكرته فلعله يقصد نقاشات واحتفالات بعد الإلغاء في ذكراها، لكن ما يمكن أن نكتشفه هو أثر إلغاء الخلافة في هذا الجيل.
ليل الصعيد في إسطنبول.. رواية البوسطجي
أكمل يَحيَى حَقِّي مشوار الكتابة الأدبية في تركيا، كتب روايته البوسطجي هناك، وسجَّل وصفه الفاجع لليل الصعيد، كتب هذا الجزء بعد خمس سنوات من مروره بالتجربة، كان يجلس في تركيا بجانب نافذة مفتوحة في الليل، ونظر إلى ليل تركيا وانبعثت داخله ذكريات الليل في منفلوط، في البلد الصعيدي الذي عاش فيه قبل ذلك، وشعر برجفة شديدة، وهو يكتبه. ولقد سَرَّه أن سمع من بعض من قرأ القصة أنهم أحسُّوا عند هذا الجزء بنفس الرجفة.
كانت هذه القصة البوسطجي مؤثِّرة، وتحولت إلى فيلم سينمائي، ومِمَّن تأثر بها الروائي نجيب محفوظ، فقد كانت الرواية عند نجيب محفوظ طريقة حياة، وقد قال نجيب محفوظ عن حيرة البدايات بين الفلسفة والأدب: “كان عليَّ أن أقرِّرَ شيئًا أو أُجَنَّ. ومرة واحدة قامت في ذهني مظاهرة من أبطال «أهل الكهف» الذين صوَّرهم توفيق الحكيم، و«البوسطجي» الذي رسمه يَحيَى حَقِّي، والفلاح الصغير الذي لا يعرف من الدنيا أبعد من حدود عيدان الغاب المنتصبة على حافة الترعة في رواية «الأيام» لطه حسين، وأشخاص كثيرين من أبطال قصص محمود تيمور، كلهم كانوا يسيرون في مظاهرة واحدة، وقرَّرتُ أن أهجر الفلسفةَ وأن أسير معهم”.
اختلاف جنائز
أتاحت تجربة العيش في تركيا ليَحيَى حَقِّي أن يقارن بين نمطَي الحياة في مصر وتركيا وأن يهتمّ ببعض الظواهر الاجتماعية، فقد لفت نظره أن المعتقدات والتقاليد المصرية للموت لم تتأثر بالوجود التركي في البلاد، فالأتراك يزدرون الموتى والقبور ازدراءً شديدًا، يقول حقي: “لم أشهد طوال إقامتي أربع سنوات في إسطنبول جنازة واحدة. تتم المراسم كلها في المسجد، على بابه حجر مرتفع كالمنضدة المستطيلة، يوضع عليها النعش، ويُتقبَّل العزاء، ثم انصراف كل حيّ لسبيله. ليس بين الأيام عندهم يوم لطلوع القرافة، لا خميس، ولا أربعين، ولا طلعة رجب، ولا العيد، لا خوص ولا ريحان، لا قُرَص ولا تمر… هذه خصلة شعب عاش يجوب السهوب ولا يستقرّ، كل قبر متروك وراء ظهره، هو الآن بعد الاستقرار متروك وراء باله”.
وحقي انتبه لمكان قبر الأديب عبد الله النديم، ويبدو أنه زاره في تركيا، وكتب بعد ذلك مقالات يطالب بعودة رفات النديم إلى مصر.
حادثة الطربوش
تَحدَّث يَحيَى حَقِّي عن عبد الملك حمزة السفير المصري في تركيا، الذي حدث معه موقف مهمّ، فقد كان في حفلة يحضرها أتاتورك بنفسه وطلب منه أتاتورك أن يخلع الطربوش، وكادت الحادثة تصبح مشكلة دبلوماسية بين البلدين.
أرسلت السفارة يَحيَى حَقِّي بحرًا من إسطنبول إلى أثينا، لا لشيء إلا ليرسل منها بالبريد المسجَّل إلى وزارة الخارجية بالقاهرة مظروفًا مبرقشًا بأختام مشرذمة غليظة من الشمع الأحمر، ثم يكرّ راجعًا من فوره إلى إسطنبول، أرسلوا المظروف من أثينا حتى لا يكتشفه الأتراك، وفي هذا المظروف كتب السفير قصة المواجهة مع أتاتورك، لكن حَقِّي يرجِّح أن الأتراك كانوا يعرفون ما في المظروف قبل سفره.
نهاية مرحلة تركيا
وبعد أربع سنوات حافلة قضاها حَقِّي في تركيا، ارتدّ فيها إلى عمق جذوره، ونظر عبر البوسفور إلى الحضارة العثمانية، نُقل إلى روما، فانتقل من ديكتاتورية أتاتورك إلى فاشستية موسوليني، وكما تَعلَّم التركية تَعلَّم الإيطالية، وأقبل على الأدب الإيطالي يغترف منه، وقرأ مسرحية موسوليني الوحيدة «مِئَة يوم»، وكتابًا آخَر ألَّفه بعنوان «أخي أرنالدو»، وعلم أنه كان يكتب خطبه وبياناته الرسمية بنفسه، فكانت قطعًا من الأدب الحارّ الملتهب.
موقف الأسرة العلوية من ثورة يوليو 1952
عاد يَحيَى حَقِّي للعمل في الدبلوماسية المصرية عام 1952 في تركيا، وفي يوم 23 يوليو من ذلك العام كانت السفارة الملكية المصرية بتركيا تصطاف -وحَقِّي معهم- في قصر ببلدة على البسفور. هربوا من حَرّ أنقرة، ولكنهم لم يهربوا من النكد. مجلة هزلية تركية تصدر في إسطنبول نشرت على صفحتين بالكاريكاتير رسمًا للملك فاروق يعوم كأنه الدرفيل يلبس نظارة سوداء، وعلى بطنه العاري المنتفخ تتواثب حوريات البحر.
كان أكثر ما يحزّ في نفس حَقِّي، هو العائلة العلوية المالكة المصرية، التي كانت تَعوَّدَت قضاء الصيف في إسطنبول، فقد بقي على طقم السفارة عبء ثقيل: كيف نعامل أفراد أسرة محمد علي المقيمين بإسطنبول، ففيهم الأمير والنبيل -كماركات السجائر- تكأكؤوا على السفارة يسألون عن أخبار الثورة، ويستفسرون عن مغزاها.
زال احترامهم المخادع للملك فاروق زعيم الأسرة، وانهالوا عليه بألسنة حداد كما شهد بذلك الكاتب. إنه في نظرهم سبب مصيبتهم. يقول حَقِّي: “عجيب أمرهم؛ في القاهرة يزعمون أنهم أتراك لهم الشموخ على أهل مصر. في تركيا يزعمون أنهم مصريون منهم، لأن انتسابهم إلى مصر يُكسِبهم قدرًا من الحصانة الدبلوماسية. وكان مِن هؤلاء الأمراء مَن يطلب من طاقم السفارة أن يستورد له السيجار الفاخر الذي يدخِّنه عن طريق السفارة حتى لا يدفع الرسم الجمركي رغم ضآلته قياسًا إلى ثرواتهم الطائلة. هم في مصر مصابون بداء العظمة والاستعلاء، كأن البلد ملك أبيهم، وهم في تركيا مصابون بمُركَّب النقص، فالخديو عندهم أفندينا، ولكن أفندينا هنا يقف وقفة التابع الخاشع أمام عظمة السلطان الملقب أيضًا بخليفة المسلمين وخازن لواء النبي.
يحلِّل حَقِّي نفسية الأسرة العلوية ويقول: “كان أفراد بيت محمد علي يبلغون بسهولة في تركيا شعورهم بمُركَّب النقص، ويعوِّضونه باستعراض ثرائهم الفاحش والطنطنة به. لم يكُن صعبًا عليهم أن يصبح كل واحد منهم مليونيرًا في تركيا، فالجنيه المصري كان يساوي 10 ليرات تركية. حتى العشرونير مثل الموظف يَحيَى حَقِّي كان في تركيا محترمًا، وكان يكفيك أن تقول إنك مصري حتى ينحني لك الناس انحناءهم لمهراجا كشمير في سابق العصر والأوان.
يكمل حَقِّي في شهادته المهمة: “وأريد أن أشهد للتاريخ أني وجدت جميع أفراد أسرة محمد علي المقيمين بإسطنبول -وبصفة خاصة النساء- قد تنفسوا الصُّعَداء، وهدأت هواجسهم، لا لأنهم رأوا العرش يؤول لابن فاروق، بل لإسناد الوزارة إلى علي ماهر. وقد سَمِعتُ بأذني إحدى الأميرات تطمْئن حاشيتها بأنه «ما دام علي ماهر في الحكم فلا خوف علينا». إنهم يعرفونه وكيلًا لدائرة سيف الدين. لم آسَف على ضعف ذكائي قدر أسفي عليه ذلك اليوم. كان ينبغي أن أتوقع خروجه من الحكم بعد قليل”.
امتَلكَت ثورة يوليو زمام الأمور واستطاعت إزاحة الأسرة العلوية عن عرش مصر، لكن القصص التي حكاها حَقِّي عن تركيا تُظهِر التفاعل بين المصريين والأتراك، ولم يكن الوحيد من جيله الذي يتابع تركيا، فقد كانت رحلة أحمد أمين إلى تركيا عام 1928، التي حكى عنها في سيرته حياتي، دليلًا على تفكير هذا الجيل في أسئلة التحديث، فكان أحمد أمين يسمع ذلك ويشتاق إلى معرفة كنه هذا الانقلاب ومداه وصلاحيته.