سياسة

إيلون ماسك والمعركة ضد جنوب أفريقيا: هل يدافع عن المزارعين البيض أم عن الرأسمالية؟

فبراير 19, 2025

إيلون ماسك والمعركة ضد جنوب أفريقيا: هل يدافع عن المزارعين البيض أم عن الرأسمالية؟

منذ انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا عام 1994، واجهت البلاد تحديات كبيرة في معالجة التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية التي خلفها ذلك النظام. أحد أبرز هذه التحديات هو مسألة توزيع الأراضي، حيث لا تزال الأغلبية السوداء تمتلك نسبة ضئيلة من الأراضي الزراعية مقارنة بالأقلية البيضاء. في يناير 2025، اعتمدت حكومة الرئيس سيريل رامافوزا قانونًا جديدًا يسمح بمصادرة الأراضي في ظروف محددة للمصلحة العامة دون تقديم تعويض، بهدف تصحيح الظلم التاريخي وتحقيق العدالة الاجتماعية.

أثار هذا القانون جدلاً واسعًا داخل البلاد وخارجها. ففي الولايات المتحدة، وقع الرئيس دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا بفرض عقوبات على جنوب أفريقيا، متهمًا الحكومة بممارسات “غير عادلة وغير أخلاقية” تتعلق بمصادرة الأراضي. كما أعلن عن تجميد المساعدات الأمريكية لجنوب أفريقيا، والتي بلغت حوالي 440 مليون دولار في عام 2023، مشيرًا إلى أن هذه السياسات تغذي العنف وتستهدف الأقليات البيضاء، أحفاد المستعمرين.

تعود جذور هذا التوتر إلى تاريخ طويل من الاستعمار والفصل العنصري، حيث تم تجريد السكان الأصليين من أراضيهم لصالح الأقلية البيضاء. ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء نظام الأبارتهايد، لا تزال التفاوتات في ملكية الأراضي قائمة. فالأقلية البيضاء، التي تشكل حوالي 8% من السكان، تمتلك نحو 72% من الأراضي الزراعية، بينما الأغلبية السوداء، التي تمثل حوالي 80% من السكان، تمتلك أقل من 4% من هذه الأراضي.

في هذا السياق، برزت منظمات مثل “أفري فوروم” (AfriForum)، وهي مجموعة تدافع عن حقوق الأقلية الأفريكانية البيضاء. قامت هذه المنظمة بحملات دولية للتنديد بسياسات الحكومة المتعلقة بإعادة توزيع الأراضي، معتبرة أنها تستهدف البيض وتعرضهم للاضطهاد. وقد اتهم حزب “إم كي” (MK)، المرتبط بالرئيس السابق جاكوب زوما، منظمة “أفري فوروم” بالخيانة، زاعمًا أنها نشرت معلومات مضللة للتأثير على قرار الرئيس ترامب بفرض العقوبات.

من ناحية أخرى، يعارض حزب “التحالف الديمقراطي” (DA)، الذي يُعتبر مواليًا للولايات المتحدة وإسرائيل، قانون مصادرة الأراضي، واصفًا إياه بغير الدستوري. يعتقد الحزب أن هذا القانون قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد، ويزيد من التوترات العرقية. تجدر الإشارة إلى أن هذا الحزب يضم في صفوفه نسبة كبيرة من البيض، ويُعتبر معارضًا رئيسيًا لحزب مانديلا “المؤتمر الوطني الأفريقي” الحاكم.

في ظل هذه التوترات، أعربت حكومة جنوب أفريقيا عن استيائها من القرار الأمريكي، واصفة إياه بأنه “حملة تضليل” ضد الأمة وتاريخها. وأكدت الحكومة أن القانون يهدف إلى معالجة الظلم التاريخي، وأنه لم يتم تنفيذ أي مصادرة للأراضي بشكل تعسفي. كما شددت على التزامها بسيادة القانون والعدالة الاجتماعية، مشيرة إلى أن السياسات الجديدة تهدف إلى تحقيق توزيع أكثر إنصافًا للموارد.

بالإضافة إلى ذلك، أثار القانون مخاوف المستثمرين والمنظمات الحقوقية، الذين يرون أن مثل هذه السياسات قد تؤدي إلى تدهور الاقتصاد وخلق مناخ من عدم الاستقرار. في المقابل، تؤكد الحكومة أن الهدف الأساسي من القانون هو تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان إعادة توزيع الأراضي بطريقة أكثر إنصافًا، دون المساس بحقوق الملكية المشروعة.


جنوب أفريقيا بين العدالة التاريخية والابتزاز الإمبريالي

في جوهر الصراع بين جنوب أفريقيا والولايات المتحدة، لا يتعلق الأمر فقط بحقوق الملكية أو السياسات الداخلية، بل بتحدٍ جوهري للنظام الرأسمالي القائم على عدم المساس بالثروة المتراكمة تاريخيًا، بغض النظر عن كيفية حصول النخب عليها. إن قانون مصادرة الأراضي دون تعويض يُعتبر خطرًا على نموذج “الملكية المقدسة” الذي يحمي مصالح النخب الاقتصادية العالمية، وخاصة الشركات متعددة الجنسيات والمزارعين البيض في جنوب أفريقيا الذين ما زالوا يحتكرون الأراضي الزراعية رغم نهاية الأبارتهايد.

وهو تحدٍ خطير، لأنه يفتح الباب أمام دول أخرى تعاني من نفس الإرث الاستعماري لاتخاذ إجراءات مشابهة، كما هو الحال في ناميبيا، زمبابوي، وحتى دول في أمريكا اللاتينية. كما أن الشركات الكبرى، وخاصة في مجالات التعدين والزراعة، ترى في هذه السياسات بداية لنهاية احتكارها للأراضي والموارد الطبيعية. وهذا يفسر الدعم الأمريكي القوي للمزارعين البيض، ليس فقط لأنهم أقلية “مضطهدة، ولكن لأنهم يمثلون الطليعة الرأسمالية الغربية في إفريقيا، تمامًا كما يُنظر إلى المستوطنين الإسرائيليين في فلسطين على أنهم “مواقع متقدمة” لحماية المصالح الغربية.


استخدام نموذج الضحية المعكوسة

ما يجمع بين دعم ترامب للمزارعين البيض في جنوب أفريقيا ودعمه للمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية وغزة ليس مجرد تشابه عابر، بل هو جزء من استراتيجية متكاملة تقوم على تصوير الفئة صاحبة الامتيازات التاريخية كضحية، بينما يتم تجاهل الجذور العميقة للظلم الذي أوصلها إلى موقعها الحالي. في جنوب أفريقيا، تم انتزاع أراضي الأغلبية السوداء عبر قرون من الاستعمار ونظام الفصل العنصري، تمامًا كما تم الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين في فلسطين المحتلة. ومع ذلك، يتم تصوير البيض في جنوب أفريقيا على أنهم “ضحايا للاضطهاد”، بنفس المنطق الذي يتم فيه تقديم المستوطنين الإسرائيليين كأصحاب حق أصيل يجب حمايته.

هذا الخطاب يعتمد على قلب الحقائق، حيث يُنظر إلى الجماعات المهيمنة اقتصاديًا وسياسيًا باعتبارها الطرف المظلوم، بينما يتم تهميش الحديث عن الحقوق التاريخية لأصحاب الأرض الحقيقيين. في كلتا الحالتين، يتم فرض وقائع جديدة على الأرض؛ فإسرائيل تستخدم المستوطنات كأداة توسع، بينما يتم تصوير المزارعين البيض في جنوب أفريقيا كمُلاك شرعيين، رغم أن ملكياتهم بنيت على تاريخ دموي من الإقصاء والاستغلال. حزب التحالف الديمقراطي (DA) في جنوب أفريقيا، الذي يُعرف بتوجهاته اليمينية، يعكس هذا التقاطع بوضوح، إذ يعارض بشدة أي سياسات لإعادة توزيع الأراضي، تمامًا كما يدعم الاحتلال الإسرائيلي، ما يكشف عن تشابك المصالح بين اللوبيات المؤيدة لإسرائيل والمزارعين البيض في جنوب أفريقيا.


إيلون ماسك: لماذا يهاجم جنوب أفريقيا؟

رغم كونه شخصية عالمية، فإن مواقف إيلون ماسك تجاه جنوب أفريقيا لا يمكن فصلها عن جذوره التي تعود إلى بيئة البيض المتميزة خلال حقبة الفصل العنصري. الرجل الذي نشأ في ظل الامتيازات التي وفرها نظام الأبارتهايد لم يُخفِ تحيزاته، حيث يروج لنظرية أن البيض في جنوب أفريقيا يتعرضون لاستهداف ممنهج. لكن المسألة تتجاوز كونه مجرد “ابن النظام القديم”، إذ أن هجماته على جنوب أفريقيا تحمل أبعادًا أعمق ترتبط بمصالحه الاقتصادية والسياسية.

يرى ماسك في أي تهديد للملكية الخاصة خطرًا على الاستثمارات الرأسمالية الغربية، ومن هنا يأتي عداؤه لقانون إعادة توزيع الأراضي في جنوب أفريقيا، الذي يهدف إلى تصحيح مظالم تاريخية. كما أنه يتبنى أيديولوجية المحافظين الجدد، التي تعتبر الحكومات المناهضة للهيمنة الغربية، مثل حكومة جنوب أفريقيا، تهديدًا للنظام العالمي الذي يخدم النخبة الرأسمالية. علاوة على ذلك، يستخدم ماسك هذه القضية كجزء من استراتيجيته الإعلامية، متماهيًا مع الرواية التي يروج لها اليمين المتطرف في الولايات المتحدة، والتي تسعى إلى تصوير الحكومات التقدمية على أنها معادية للحريات ومناهضة للاستثمار الحر.

لكن ما يفعله ماسك ليس سوى امتداد لسياسة أوسع تُذكّر بما حدث في زمبابوي بعد تنفيذها لبرنامج الإصلاح الزراعي، حيث تحولت البلاد إلى نموذج تُستخدم معاناته كـ”عبرة” لأي دولة تحاول كسر الهيمنة الاقتصادية الغربية.


هل هناك فعلاً اضطهاد للأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا؟

ما يُروَّج له عن “اضطهاد البيض” في جنوب أفريقيا هو مجرد بروباغاندا تُستخدم لحماية الامتيازات التاريخية التي لم يتم تفكيكها بشكل كامل بعد انتهاء الأبارتهايد. صحيح أن البلاد تشهد ارتفاعًا في معدلات الجريمة، لكن الإحصائيات تُظهر أن الضحايا هم من جميع الفئات، وليس البيض وحدهم، بل إن الأغلبية السوداء تعاني من الجريمة بشكل أكبر نظرًا للظروف الاقتصادية الصعبة التي خلفها النظام السابق.


المشكلة الحقيقية ليست “استهداف البيض”، بل هي أن الأقلية التي تمثل أقل من 5% من السكان لا تزال تسيطر على 80% من الأراضي، ومع ذلك يتم تصوير أي محاولة لتصحيح هذا الخلل التاريخي على أنها “حملة اضطهاد”. منظمة أفري فوروم (AfriForum)، التي تعد واحدة من أبرز المجموعات المدافعة عن مصالح المستوطنين البيض، تعتمد على أساليب إعلامية متطورة لإعادة إنتاج سردية الضحية، بهدف خلق تعاطف دولي واستجداء الدعم السياسي والاقتصادي.

لكن الحقيقة التي لا يريدون الاعتراف بها هي أن الفقر والبطالة في جنوب أفريقيا لا تزال تؤثر بشكل رئيسي على السود، الذين تم تهميشهم اقتصاديًا لعقود. وحتى بعد سقوط نظام الأبارتهايد، لا تزال الثروات المتراكمة عبر الاستعمار تمنح الأقلية البيضاء تفوقًا اقتصاديًا غير مبرر. إذًا، فإن الحملة الإعلامية حول “اضطهاد البيض” ليست سوى أداة لحماية الامتيازات غير المشروعة، وضمان بقاء الوضع القائم دون أي تغيير جوهري.

شارك

مقالات ذات صلة