على ذكر التهجير، فهو جارٍ فعلاً في الضفّة منذ بدء الهدنة في القطاع، استكمالاً لهروب نتنياهو للأمام تجنّبًا لمصيره المحتوم في الداخل، ووسط انشغال الناس بمقاومة المخطط النظري لإخلاء غزّة، ولو تابعنا المشاهد ولتقارير لعلمنا بأنّ التصوّر الأوّل- الذي أتحفتنا به ولاية ترمب السابقة- كان غرضه الأساس: الضفّة والقدس.
وهو ما يحدث الآن، على الهواء أو بعيدًا عنه، ولو تحريكًا قسريًّا مبدئيًّا، لكنّه سيستمرّ ما لم يردعه رادع، والأردن -باعتبارها ثاني المضارين المباشرين بعد الفلسطينيين- حلها مختزلٌ في صورة مليكها العاجز أمام ترمب في لقائهما الفاضح قبل أيام، وأخشى أن نتنياهو وصبيان عبّاس ينفّذان الخطّة على أكمل وجه حتى اللحظة، قضاء على بؤر المقاومة بعد ملاحقتها، ونسف مقوّمات الحياة، وتهجير الناس من بيوتها وقراها ومخيّماتها.
أما العرب، فجلّ ما أخشاه-ويشبه سلوكهم وتوجّههم- أن يكونوا طرفًا في الإلهاءة الترمبيّة، لإنجاز ملفّ التهجير في الضفّة كما خطط له من البدء، ثم تمرير صيغة من صيغ التخلّص من حماس في غزّة، والخروج مع ترمب للاحتفال بمواجهتهم لمخطط التهجير بعد أن يكونوا أتمّوه، ثم يطلبوا من الشعوب أن يشكروهم.
واحد من السيناريوهات المطروحة للتعامل مع ما ظلّ ترمب يردده كالآلة المعطوبة، اعتياده لمنطق السمسار في المساومة بدءًا بإحداث الصدمة بالعرض المتطرف، حتى يعتبر الكلّ حقيقة المراد إنجازًا جماعيًّا وانتصارًا لمقاومتهم وحنكتهم، وهو ما يعني إنهاء حكم حماس في القطاع فداءً لبقيّة القطاع وبديلاً عن التهجير.
وهذا غرضٌ سعت لأجله الكثير من قصور الحكم المستعربة، وأجهزة أمنها وعسكرها ومعلوماتها على مطار سنين، قبل الطوفان والإبادة وأثناءهما، ولعلّ هذا مشروعًا يتبنّاه من الوكلاء أكثر ما يفعله الأعداء ذاتهم، وقد فضح نتنياهو سعيهم ذاك أكثر من مرّة للتخلّص من حماس والمقاومة لتنعم البلاد (غزّة لا تشكّل أكثر من ١.٣٣٪ من مساحة دولة فلسطين) بالهناء والسلام.
لا أعرفُ حجم اهتمام المقاومة بحكم القطاع في هذه اللحظة، إذ يبدو عبئًا في الغالب، وكثيرًا ما أبدت قيادات الفصائل عدم تقديمها له كأولويّة اهتمام ما لم يكن مواجهةً لخطط استيلاء على صهيوأمريكيّة بالوكالة، عربيًّا أو دوليًّا، بل على العكس نقلت وسائل إعلام عربيّة ودوليّة إشارات لانفتاحهم على تصوّرات حكم وطنيّة تقدّم حياة الناس وإعادة الإعمار وضمان وجودهم في أرضهم على أي تصوّرٍ آخر ولو كان حقًا.
لكن الوجود غير الحكم، وإذا كان ثمّة مرونة واجبة في مسألة الحكم فضدّها واجبٌ في مسألة المقاومة وسلاحها، لذا كان من الضروري قطع الطريق والخيال والألسنة قبل الخطو للأمام أكثر ولو خطى كلاميّة في تصوّرات سيطرة وكيلة عن العدو تتبناها أو تروّج لها أنظمة متصهينة هنا أو هناك.
“من يحل محلّ الاحتلال، سنتعامل معه بالمقاومة كما نتعامل مع الاحتلال” تصريح أجهز على آمال الحالمين بإعادة مشهد خروج منظمة التحرير الفلسطينية (وقت كانت للتحرير، وفلسطينية) من لبنان بعد الاجتياح والحصار والمجازر، كما أوصل الرسالة مباشرةً لأصحاب التصوّرات التي تكررت محاولات اختبارها بعد الفشل المبدأي الذي لاقى مخطط ترمب، حتى الآن.
عباس-كعادته “الوسخة”- سيقبل المهمّة، بحسب عرض قدّمه بالفعل ليرسل قوّات بسلاح وأجهزة وخطط صهيونية لمواجهة المقاومة في القطاع لو استطاع، والإمارات لديها خطّة مشابهة لكن لدعم وجود سلطة على رأسها دحلان في الغالب، وكلاهما (سلطة أوسلو، وخطّة الإمارات) ستدهسهما المقاومة وتهينهما، تمامًا كما فعلت وتفعل مع تصوّرات نتنياهو بطيلة شهور الإبادة حتى الآن.
وأحسبُ أن السلطة في مصر خصوصًا تدرك ذلك أو تعرفه يقينًا، لذا تجنّب نفسها محاولات توريطها في هذا المستنقع الذي سيخسر فيه كلّ محاولٍ، حتى قبل أن يبدأه (فالمقاومة لن تسمح بوجوده تمامًا كما لن تسمح بالتهجير: تهجير الشعب وتهجير المقاومة)، ولعلّهما تتوافقان حول تصوّر المقاومة (الذي بناه السنوار غالبًا لما بعد الطوفان) حول سلطة وطنيّة فلسطينيّة جديدة بقيادة مروان البرغوثي بعد تحريره، تتولى مسؤوليّة القطاع كما الضفّة، وهو حال تحقّقه ولو بتصرّف سيكون انتصارًا للمقاومة وهزيمة للعدوّ رغم مأساويّة الثمن.