آراء
التعليم ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل هو القاطرة التي تحمل الأمة نحو النهضة والاستقلال، وهو المعركة الفاصلة التي ستحدد إن كنا سنبقى تابعين للآخرين أم سنعود روادًا للعالم كما كنا يومًا. إن الأمة الإسلامية اليوم لا تحتاج إلى ثورة شعارات، بقدر حاجتها إلى ثورة تعليمية تعيد ترتيب أولوياتها، وتضع العلم في موقعه الحقيقي، لا كأداة للترفيه أو التوظيف، بل كمحور لبناء الحضارة وإعادة رسم خريطة القوة العالمية.
لقد كانت اللحظات الذهبية للأمة الإسلامية حين كان التعليم فيها مشروعا حضاريا، لا وسيلة للخضوع لمعايير الآخرين. كانت بغداد، وقرطبة، وفاس، والقاهرة مصانع للعلم والفكر، وكانت الجامعات الإسلامية مثل القرويين والأزهر ومجالس العلماء تخرّج فقهاء، ومهندسين، وعلماء في الفلك والطب والكيمياء، ممن قامت على أكتافهم النهضة الأوروبية لاحقًا. أما اليوم، فقد تحولت جامعاتنا في كثير من الدول الإسلامية إلى مصانع للشهادات الورقية، وأصبح التعليم مجرد مرحلة عبور إلى الوظيفة، وليس ميدانًا لصناعة الفكر والإبداع والتقدم.
إن الأمة لا تُبنى بالشعارات، بل تُبنى بالعلم والمعرفة، ولن تعود الأمة الإسلامية إلى دورها الريادي ما لم يصبح التعليم قضيتها المركزية، وما لم يتم إصلاحه من الجذور. وهذا الإصلاح لا يمكن أن يكون ترقيعيًا أو شكليًا، بل يجب أن يكون ثورة منهجية شاملة تعيد صياغة التعليم ليكون أداة للتحرر، وليس وسيلة للتبعية. فالأنظمة التعليمية في كثير من الدول الإسلامية اليوم لا تزال تعتمد على نظم مستوردة، لا تعبر عن روح الأمة، ولا ترتبط بحاجاتها الفعلية. فالطالب المسلم يتعلم علومًا منفصلة عن هويته، ويحفظ دون أن يفكر، ويتخرج دون أن يمتلك أدوات الابتكار والإبداع، ثم يجد نفسه في مواجهة عالم لا يرحم، بلا مهارات حقيقية، وبلا رؤية واضحة للمستقبل.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه الأمة الإسلامية اليوم ليس مجرد تطوير المناهج أو بناء المدارس والجامعات، بل تغيير فلسفة التعليم برمتها. نحن بحاجة إلى نظام تعليمي يصنع الإنسان الذي يفكر، ويبحث، ويبدع، وليس الإنسان الذي يحفظ ويردد ما يُملى عليه. نحن بحاجة إلى تعليم يعيد ربط المسلم بتاريخه الحضاري، ويعزز قيم الهوية والكرامة والاستقلال، حتى لا يبقى المسلم تابعًا للمشاريع الفكرية والثقافية الوافدة التي تمحو شخصيته وتجرده من روحه الحضارية.
إن العالم الإسلامي اليوم يمتلك كل المقومات اللازمة لصناعة نهضة تعليمية حقيقية، لكنه بحاجة إلى إرادة سياسية وشعبية تجعل من التعليم أولوية مطلقة. لدينا ثروات طبيعية هائلة، ولدينا قوة بشرية ضخمة، ولدينا تاريخ علمي زاهر يمكن أن نستلهم منه، لكننا بحاجة إلى قرار حاسم بالاستثمار الجاد في التعليم كوسيلة للتحرر والاستقلال. فالعالم اليوم لا يحترم إلا من يملك العلم والتكنولوجيا، والدول التي تريد أن تحافظ على سيادتها لا يمكنها أن تعتمد على استيراد المعرفة، بل يجب أن تكون منتجة لها، وهذا لن يحدث إلا بإصلاح تعليمي حقيقي يعيد تشكيل العقلية المسلمة نحو الابتكار والإنتاج، وليس نحو الاستهلاك والتبعية.
إن الخطوة الأولى في مشروع بناء الأمة تبدأ من إصلاح التعليم، بحيث يصبح مشروعًا إسلاميًا جامعًا يتجاوز الحدود القُطرية، ويؤسس لنظام تعليمي موحد في أهدافه وإن تعددت أشكاله. نحن بحاجة إلى جامعات إسلامية مشتركة، وبرامج تبادل علمي بين الدول الإسلامية، ومشروعات بحثية مشتركة في مجالات التكنولوجيا والطب والطاقة والاقتصاد، حتى نخلق جيلًا مسلمًا قادرًا على مواجهة تحديات العصر. لا يمكن للأمة أن تنهض إذا ظل كل قطر يعمل منفصلًا عن الآخر، فكما وحد الإسلام هذه الأمة تحت راية واحدة، يجب أن يوحدها التعليم في مشروع حضاري مشترك يعيد رسم ملامح المستقبل.
إن العالم الإسلامي يقف اليوم على مفترق طرق، فإما أن نأخذ زمام المبادرة، ونبدأ في صناعة نموذجنا التعليمي الخاص الذي يعبر عن هويتنا ويحقق استقلالنا، وإما أن نبقى أسرى للأنظمة التعليمية المستوردة التي لا تخدم سوى مشاريع الهيمنة والتبعية. هناك فرصة تاريخية اليوم لإنشاء تحالفات تعليمية بين الدول الإسلامية، لبناء نظام تعليمي يكون نواة لمشروع النهضة، تمامًا كما فعلت الأمم المتقدمة التي بدأت نهضتها من المدرسة والجامعة ومراكز الأبحاث، وليس من الأسواق والاستهلاك.
إننا بحاجة إلى إعادة اكتشاف أنفسنا، وإلى التحرر من عقدة النقص تجاه الغرب، فالتعليم الذي نحتاجه ليس تعليمًا يكرر ما يقوله الغرب، بل تعليم يستفيد من تجاربه، لكنه يبقى نابعًا من قيمنا ورؤيتنا الحضارية. نحن بحاجة إلى تعليم يعيد للأمة شعورها بالكرامة والقوة، ويزرع في أبنائها روح البحث والتفكير والإبداع، حتى يتحول المسلم من مجرد مستهلك للمعرفة إلى صانع لها، ومن تابع للعالم إلى قائد لمسيرته.
إن بناء الأمة يبدأ من القلم والكتاب، وليس من البندقية وحدها. إن أردنا لأمتنا أن تستعيد مجدها، فعلينا أن نعيد النظر في مدارسنا وجامعاتنا ومناهجنا، وأن نؤسس لنظام تعليمي يليق بأمة كُتب لها أن تكون خير أمة أُخرجت للناس. إن الطريق إلى العزة والكرامة لا يمر عبر صالات الاجتماعات السياسية وحدها، بل يمر عبر قاعات الدراسة ومختبرات البحث العلمي، حيث يتم تشكيل العقول وصناعة القادة الذين سيحملون الأمة نحو مستقبلها الذي تستحقه.