تأملات

لا تؤلمني تصريحات ترمب

فبراير 14, 2025

لا تؤلمني تصريحات ترمب

كلّما تحدث ترمب عن تهجير الشعب الفلسطيني من بلاده، تداعت إلى ذهني كلمات جدّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين كان جيش أبرهة يتقدم نحو البيت العتيق، فقال بطمأنينة العارف (للبيتِ ربٌّ يحميه)، والبيت هنا هو بيت الله، وفي قدسية الأماكن وتشاركيّتها في كلمة (البيت)، نجد أنّ هذا المسمّى قد أُطْلِقَ على بيتين، هما: (بيت الله الحرام) في مكّة،

و(بيت المقدس) في فلسطين.


وحين أحاول سماع صوت ترمب وأنا أنظر للشوارع المدمرة وركام البيوت، ينطق حبل غسيلٍ في يدِ امرأة تمدّهُ بين نصفِ عمودٍ مكسور، وبقايا نافذةٍ متدلية في الركام، قائلاً: “ما زلتُ أستطيع أن أتكئ بملابسي على الشمس”

همستُ لتلك المرأة: قد ينهار منزلكِ في أيِّ وقت، إنّه غير صالح للسكن

ردّت عليّ: لا بأس المهم أنّه بيتي ..

تلعثمت ولم أستطع أن أضيف لعبارتها أيّ كلمة، وتمتمت روحي (نعم إنّه البيت).

وفجأةً نطقتها (نعم إنّها فلسطين).

وبين البيت وفلسطين.. يلفحني الهواء القادم من العتبات وأشجار الليمون والبرتقال، رائحةٌ لا يعرفها إلا أهل هذه البلاد، ولا نستطيع اشتمامها بين ناطحتي سحاب، ولا عند نهر التايمز، ولا تحت برج إيفل، رائحةٌ لم أشمّ مثلها سوى حين كنتُ أقبّلُ يدَ جدّي رحمه الله.


الناظر إلى مدينة غزّة الآن لا يجد إلا الركام، اليد التي صنعت كل هذا الخراب، هي يدٌ ممسوسة بالقتل، إنّها تعرف جيّداً ما تفعل، المنازل إمّا محروقة أو اخترقتها القذائف من كل جانب، أو تم قصفها تماماً؛ فتراها مثل البسكويت المهروس، كل ما هنالك لا يدعو إلى الحياة، عدا الطفل الذي باغتني لا أعرف من أين وهو ينادي: (بسكويت، شوكولاتة)

لم يكنْ نداء ذلك الطفل عادياً، حين نظرت إلى قطعة الشوكولاتة التي في يده، وجدت مطبوعاً عليها اسم “فلسطين” منسقاً مع غلاف في منتهى الجمال، يا إلهي ما أجمل بلادي، رغم كل هذا الخراب فإنّي لا أرى فلسطين إلا جميلة الجميلات.

شكرتُ ذلك الطفل كثيراً، قلت له: لقد أنقذتني من تساؤلات مؤرقة وأوجاعٍ أثقلت كاهلي وأنا أنظر إلى كل هذا الدمار..

عن الجمال، هل بقي شيءٌ يستدعي الجمال في هذه البلاد المدمرة؟


كان المطرُ يشتدّ، فرأيتُ رجلاً يخلع سترته فوق رأس امرأة تسير بجانبه كي لا تتبلل، وطفلًا يفرك أقدام جدّته بيديه كي تشعر بالدفء، سمعتُ طفلةً تصرخ وهي تضحك في الشارع (الدنيا تمطر).

إذًا، الجمال ليس تركيبةً جاهزة، هو ذوقك الخاص في رؤية الموجودات من حولك، على المرء أن يخاف حينما تأتي لحظة جميلة ولا يستطيع الإحساسَ بها، لأنّهُ في تلك اللحظة سيدرك كم هو موجوع..

التقيت صديقتي التي تعمل في إدارة مركز إيواء للنازحين، أخرجتُ لها قطعة الشوكولاتة بفرح، قلت لها انظري ما أجمل اسمها، اندهشَتْ، وسألتني هل فلسطين جميلة إلى هذا الحدّ؟

قلت لها تخيّلي أننا فرحنا بها حين رأينا اسمها مطبوعاً على قطعة شوكولاتة، كيف بنا حين نمشي في شوارعها وسهولها وجبالها يوماً ما؟

إلى ذلك الوقت، فهي جميلةً جدّاً، كما نحسّها بقلوبنا، إحساسي بهذا الجمال هو الذي يجعلني قادرة على التنفس حتى هذه اللحظة، فكلُّ هذا الدمار خانق..

فيما ورد أنّ الله عز وجلّ حين خلق ذريّة آدم قبضَ قبضةً من كل مكانٍ في الأرض وهذا ما يفسّر وجود الأبيض والأسمر واختلاف البنية الجسدية حسب الموقع الجغرافي، وكثيراً ما أشعرُ أنّ الله عزّ وجلّ خلقنا من تراب هذه البلاد، وأفكّرُ كثيراً لماذا خلقنا الله من تراب؟ عدا عن أن يتذكر الإنسان ضعفه وهوانه أمام الجناب الإلهيّ، فإنّه أيضاً ليرتبط بالأرض، ليصبح هذا التمازج العظيم بين جسده وبيته وبين روحه وأرضه.


حينَ صعدت إلى السيارة أثناء عودتي وجدت الركّاب يتحدثون عن قضية التهجير، القضيّة التي تشغل الناس والإعلام الآن، يقول رجلٌ خمسينيّ للسائق، لا أستطيع الخروج من غزة، فيسأله السائق: لماذا؟ فيجيب (بعرفش أعيش غير في غزّة)، تقول امرأة تجلس بجانبي بصوتٍ خافت (وأنا كمان بعرفش أعيش غير في غزّة) سألتها هل عشتِ الحرب كلّها في مدينة غزة ولم تنزحي إلى الجنوب؟ قالت لي نعم، حاصرتنا الدبابات 21 يوماً، كنا نتنقل داخل المنزل زحفاً على بطوننا خوفاً من أن ترصدنا (الكواد كابتر) فتطلق علينا النار، قطّعنا الرغيف إلى أجزاء صغيرة، كلٌّ واحد منّا يعرف أنّه فقط سيأكل ربع رغيف طوال اليوم، عجنتُ الشعير، عشنا المجاعة 7 أشهر، لم أفهم يوماً كيف يبكي المرء من الجوع، لكنني بكيت حين رأيت أطفالي يتضوّرون من الجوع ..

سألتها: ( هل تفكرين بالهجرة؟ )

فأعادت العبارة مرة أخرى وهي تبتسم بألم (بعرفش أعيش غير بغزّة).

عن غزّة والتي هي جزء لا يتجزأ من فلسطين، ليست مجرّد جغرافيا، إنّها تاريخ ووجود وأصدقاء وذكريات وعائلة وبيت، وأقف طويلاً عند كلمة بيت ..


سمعتُ مقابلات صحفية كثيرة مع أهلنا في شمال غزة، يسأل الصحفي أحدهم: هل ستعود إلى شمال غزّة؟ قال نعم أنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، بيتي مدمر، لكنني سأضع خيمة فوق الركام وأعيش ..

هل الركام هو البيت ؟ أتساءل ..

بالتأكيد الركام ليس هو البيت، لكنّه يقول لمالكه أنت صاحبي ..

الشوارع المدمرة تقول لخطواتنا، أنتم أصدقائي

المآذن المقصوفة تقول لنا: أنتم إخوتي

الأشجار تقول لنا: أنتم أهلي

كما أقول لغزّة مع كلّ نَفَسٍ أتنفسه: “فيكِ كل هذا الركام والخراب والألم، وأنتِ حبيبتي .. أنتِ بيتي”.

تسألني غزّة، وتصريحات ترمب لتهجيركم؟

أجيبها: “تصريحات ترمب لا تؤلمني

أرى شفتيه تتكلمان، لكنني لا أستطيع سماعه”


نظر لي السائق: وقال لي: لا أستطيع إيصالك للبيت، الشارع مغلق بالركام. شكرته ونزلت، وبينما أمشي على قدميّ ما تبقى من مسافةٍ نحو البيت، أدركت هذا المعنى

“كلُّ شارعٍ وحجرٍ في بلادي فلسطين هو البيت”

شارك

مقالات ذات صلة