مدونات
للكاتبة: حفصة دهوار
ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل هو إبادة جماعية وتطهير عرقي يتم تنفيذه بوحشية مدروسة. الدمار الذي نراه ليس وليد الصدفة أو نتيجة فوضى المعارك، بل هو تدمير ممنهج يستهدف أحياء كاملة، ويمزق العائلات، ويمنع السكان من الحصول على أبسط مقومات الحياة. هذه ليست مجرد عملية عسكرية، بل محاولة متعمدة لمحو وجود شعب بأكمله من خلال هدم منازله وسلبه حقه في العيش على أرضه.
الهدف واضح: تحطيم الإرادة الفلسطينية وإجبار الفلسطينيين على مغادرة وطنهم الذي عاشوا فيه لأجيال. هذه الحرب لا تستهدف المقاومة فقط، بل تطال الأبرياء: الأطفال، النساء، الرجال، الأطباء، الصحفيين، وكل مكونات المجتمع الفلسطيني. إنها رسالة تُكتب بالدماء، مفادها أن لا أحد في مأمن، وأن كل فلسطيني هو هدف. ومع ذلك، يظل الفلسطينيون صامدين، يقاتلون من أجل حقهم في البقاء، ليس مجرد بقاء جسدي، بل بقاء على أرضهم التي يرفضون مغادرتها.
الرسالة التي يريد الاحتلال فرضها هي أن الفلسطينيين سيرحلون تحت الضغط، لكن الواقع يثبت العكس. مهما بلغت وحشية القصف، ومهما دُمِّرت منازلهم، يصر الفلسطينيون على البقاء. غزة ليست مجرد بقعة على الخريطة يمكن مسحها، بل هي رمز للمقاومة والإصرار، حيث يواصل شعبها القتال من أجل حقه في الوجود بحرية ودون احتلال.
خرافة السلام
لطالما استُخدمت شعارات “السلام” و”الأمن” كأدوات لقمع الفلسطينيين، حيث يُطلب منهم القبول بالاحتلال والتخلي عن حقوقهم مقابل “السلام”. ولكن أي نوع من السلام هذا؟ حياة تحت الرقابة، في سجن مفتوح، بلا سيادة أو مستقبل؟ مرة أخرى، يعود الخطاب الذي يروج لفكرة أن الفلسطينيين لن ينعموا بالسلام إلا إذا غادروا أرضهم.
لكن من يروجون لهذه الفكرة لا يقدمون لهم وطنًا بديلًا، بل يقترحون النفي والتشريد. فكرة أن السلام يتحقق بإزالة شعب بأكمله ليست فقط سخيفة، بل تحمل في طياتها نية للإبادة. هذه ليست سياسة جديدة، فمنذ نكبة 1948، كان التهجير القسري جوهر المشروع الصهيوني. الاستراتيجية لم تتغير: جعل الحياة مستحيلة، دفع الفلسطينيين إلى اليأس، ثم تقديم “الحل الوحيد” وهو الرحيل بلا عودة. ولكن الفلسطينيين لم يرضخوا لهذه المخططات، ولم يتخلوا عن أرضهم أو هويتهم.
محاولات فاشلة لمحو غزة
على مدى عقود، استخدم الاحتلال أساليب متعددة للقضاء على غزة وسكانها، من الحصار والتجويع إلى الهجمات العسكرية الشاملة. وفي كل مرة، كان الرد الفلسطيني ثابتًا: المقاومة والصمود. منذ خمسينيات القرن الماضي، حاول الاحتلال تهجير الفلسطينيين من غزة، كما حدث مع “مشروع توطين سيناء” عام 1955، الذي سعى لنقل اللاجئين الفلسطينيين إلى صحراء سيناء.
ورغم فشل هذا المشروع، لم تتوقف المحاولات، بل عادت بأسماء مختلفة وأساليب جديدة. بعد العدوان على غزة عام 2014، عادت فكرة “إعادة توطين” السكان مجددًا، حيث كان الهدف واضحًا: تدمير غزة بالكامل وخلق بيئة غير قابلة للحياة، ثم تقديم النزوح كخيار “منطقي”. لكن الفلسطينيين رفضوا الخضوع، واختاروا الكرامة والمقاومة بدلًا من الاستسلام.
اليوم، ما زالت الاستراتيجية نفسها قائمة: قصف متواصل، استهداف للمستشفيات، هدم للمنازل، وحرمان السكان من الماء والكهرباء. هذه ليست مجرد عمليات عسكرية، بل جزء من خطة ممنهجة لفرض التهجير القسري. لكن، مرة أخرى، فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، لأن الفلسطينيين لا يزالون متمسكين بأرضهم، رافضين التهجير.
خطة ترامب لغزة: تهجير تحت ستار التنمية
في عام 2025، أعلن دونالد ترامب عن رؤيته لتحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، وهو مشروع بدا في ظاهره وكأنه وعد بالرخاء، لكنه كان في جوهره محاولة أخرى لمحو الوجود الفلسطيني تحت غطاء “الفرصة الاقتصادية”. الاقتراح بنقل الفلسطينيين إلى دول مجاورة مثل الأردن أو مصر، بحجة توفير “حياة أفضل”، لم يكن سوى محاولة لإنكار حقيقة راسخة: الفلسطينيون متجذرون في هذه الأرض منذ قرون، وهي ليست مجرد مكان يمكنهم مغادرته بحثًا عن ظروف معيشية أفضل.
الافتراض بأن الفلسطينيين سيغادرون غزة بعد كل ما واجهوه من معاناة وقتل ودمار هو افتراض سخيف ومهين. هل يُعقل أن يرحلوا الآن، بعد أن صمدوا لعقود؟ غزة ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي جزء من هويتهم وثقافتهم وإرثهم التاريخي.
أوهام نتنياهو
هل يؤمن نتنياهو حقًا بأن بإمكانه تحقيق النصر عبر القصف والتدمير؟ هل يعتقد أن قتل الأطفال وتدمير المنازل وتجويع السكان سيجعل الفلسطينيين يختفون؟ لطالما وعد نتنياهو بأن “مشكلة غزة” سيتم حلها بالقوة، لكنه فشل في كل مرة. بعد عقود من القتل والحصار، ما زال الفلسطينيون هناك، أقوى وأكثر تصميمًا من أي وقت مضى.
لا التكنولوجيا العسكرية، ولا الغارات الجوية، ولا الدعاية الإعلامية نجحت في تغيير الحقيقة الأساسية: الفلسطينيون باقون. أكبر إخفاق للصهيونية هو فشلها في فهم دروس التاريخ. لقد حاولوا تهجير الفلسطينيين مرارًا، لكن الفلسطينيين رفضوا الرحيل في كل مرة، ليس بسبب قرارات دولية، بل بسبب إيمانهم العميق بحقهم في أرضهم وهويتهم.
من النهر إلى البحر: الحقيقة التي لا يمكن إنكارها
“من النهر إلى البحر، فلسطين حرة” ليست مجرد عبارة، بل حقيقة لا يمكن إنكارها. إنها رفض لمحاولات تقسيم فلسطين أو محوها. مهما أقيمت الجدران، أو توسعت المستوطنات، أو روجت الدعاية، تظل الحقيقة واحدة: فلسطين موجودة، وستظل كذلك.
رغم كل المآسي، ظل الفلسطينيون في غزة متمسكين بأرضهم، رافضين التهجير والخضوع. لقد اختاروا البقاء، ليس فقط كفعل مقاومة، بل كحق غير قابل للتفاوض. يحاول الاحتلال إقناع نفسه بأن القوة يمكنها تغيير الحقائق، لكنه مخطئ. الفلسطينيون، جيلًا بعد جيل، أثبتوا أن لا قصف ولا حصار يمكنه محوهم من الوجود. الأرض باقية، الشعب باقٍ، ومن النهر إلى البحر، فلسطين ستظل حرة.