تأملات
أكتب هذا المقال بعد وعكة صحية خفيفة، هنا بعض التأملات، يقِفُ المرضُ أيَّ أوهام بشأن الآمال العريضة من الحياة، يعلّمك المرض التواضع ودعاء الله بالشفاء وخفة الدنيا وهوانها.
في المرض والتعب، أغمض عيني وأسرح في الملكوت، أحاول القبض على لحظة هدوء واسترخاء، لاحظتُ مشهدًا متكررًا يلح على خيالي في حالة المرض، في هذه الأوقات يتراءى لي شاطئ الإسكندرية ورملها الذهبي وأفق البحر الأزرق فيها، وإن زاد الاستغراق كدت أشمّ رائحة اليود والجو العليل، كل هذا وأنا لست من أهل الإسكندرية! إلى أين يذهب عقلك عزيزي القارئ عندما تريد الهرب من لحظتك الخانقة؟
في المرض تذكير بهشاشة الإنسان، ومراجعة لنظرته إلى حياته، كأن المرض هو تعليمنا معنى العافية، يقع المرض في أحبائنا، ونشعر بهوان الدنيا مقابل عودتهم سالمين.
تذكرت الشاعر بابلوا نيرودا وهو يقول: “لماذا الشمس رفيق مُؤذٍ للمسافر في الصحراء؟ ولماذا هي لطيفة في حديقة المستشفى؟”.
عندما أمرض أتذكَّر الغربة التي عبَّر عنها بيت أبي الطيب المتنبي:
بِيَدِي أَيُّهَا الأَميرُ الأَرِيبُ لا لِشَيءٍ إلَّا لِأَنِّيِ غَريِبُ
هذا البيت كتبه المتنبي إلى الوالي يستعطفه حتى يُخرِجَه من السجن، نبّهني لروعته عارف حجاوي، قال عنه: “هذا بيت نادر؛ لن ترى المتنبي رقيقًا هذه الرقة أبدًا بعد ذلك. كان، عندما قالها، فتىً ناشئًا”.
“لا لشَيْءٍ إلَّا لأنِّي غريبُ”
استعطاف رقيق وتنبيه لقسوة الغربة وأنها شيء يستحقّ أن يخرج بسببه من السجن، أردِّد أحيانًا “لا لشَيْءٍ يا رَبِّ إلَّا لأنَّنا غُرَباءُ فرِّجْ عنَّا هُمومَنا وفرِّجْ عنَّا تَعَبَنا”.
الغربة تحتاج إلى يد إلهية ترعاك وأنت وحدك، لتكون في معية الله وحفظه.
يقول أبو العتاهية:
وإذا انقضَى هَمُّ امْرِئٍ فقد انقَضَى إنَّ الهُمُومَ أَشَدُّهُنَّ الأَحْدَثُ
أنشغل بمتطلبات الحياة ثم يأتي المرض، فيكون همي الأحدث هو الشفاء، وأتذكر قول ابن سلام الجمحي: “الإنسان في غفلة حتى يُوقَظ بِعلَّة”.
قالها ابن سلام صاحب كتاب طبقات فحول الشعراء حينما مرض، للطبيب ابن ماسويه طبيب المعتصم: “فلما جسَّه ونظر إليه قال الطبيب: ما أرى من العلَّة كما أرى من الجزع! فقال ابن سلام: والله ما ذاك لحرص على الدنيا مع اثنتين وثمانين سنة، ولكن الإنسان في غفلة حتى يُوقَظ بعلّة. ولو وقفتُ بعرفات وقفة، وزرتُ قبر رسول الله ﷺ زَوْرة، وقضيتُ أشياء في نفسي، لرأيتُ ما اشتدَّ عليَّ من هذا قد سَهُلَ”.
وألَّف ابن سلام بعد ذلك كتابه متأثرًا بالمرض خوفًا من ضياع العلم بموته, في أوقات المرض والألم أشعر بتفاهة كثير من صراعات الحياة.
دنيا عجيبة!
قال صديقي في لحظة حكمة: هذه الحياة غريبة؛ كلما هادنتُها بمحاولة فهم شيء يسير منها، عصَفَت بي وتغيرت عليّ حتى رأيتُ صدقها كذبًا، وكلما أمِنْتُ ريب الدهر قلب لي ظهر المِجَنِّ، وكلما تمترستُ وراء قناعات فكرية بذلتُ في بنائها أيامًا وشهورًا، خَرّ بي البناء.
كنت أدرك ما يقوله صديقي ويشعر به، آه من هذه الدنيا! الإنسان فيها ضعيف، يهدّه المرض ويسكن في قلبه حب الرئاسة، وتتنازعه شهوات المال وفتن الحياة، وهو على قلق دائم من انهيار كل شيء، والإنسان قد أشكل عليه الإنسان كما يقول التوحيدي، والخليفة المأمون كان يقول: من أراد أن يطيب عيشُه فليدفع الأيام بالأيام.
عاد صديقي يبتسم ويردّد حكمة الميكروباص الخالدة: “رميت همومي ف البحر.. طلع السمك يلطم!” في المقابل رددت عليه بمقولة أعمق: “كل ما افهم الدنيا يطلع «تحديث جديد»”.
هذا هو الإنسان، يحمل همومًا في حياة تقوم على المكابدة، ويكدح في دنيا الله ولا يصل إلى فهم كامل لهذه الدنيا الغرور…
قال الشاعر عمر الخيام:
زخارفُ الدنيا أساسُ الألَمْ
وطالبُ الدنيا نديمُ النَّدَمْ
فكُنْ خليَّ البالِ من أمرِها
فكُلُّ ما فيها شقاءٌ وهَمْ
يذكر الشيخ حسن الشافعي في مذكراته “حياتي في حكاياتي“: “من لم يزُر المحاكم أو يتابع أخبارها، ومن لم يزُرِ المستشفيات مريضًا أو بريئًا، لا يعرف مجتمعه”، وأضيف إليها السجون…
يحكي أنطون تشيخوف عن مرض تولستوي قائلًا: “عارف؟ أنا زرت تولستوي مؤخرًا في جاسبرا. كان طريح الفراش بسبب المرض. ومن جملة ما تَكلَّم عنه أن تَكلَّم عنِّي وعن أعمالي. وأخيرًا، ولما أوشكتُ أن أحيِّيه وأنصرف، أمسك بيدي وقال «بل حيِّني بقبلة». ولما انحنيت أقبِّله همس في أذني بصوت هرم وبشيطنة باقية: «عارف؟ أنا لا أحب مسرحياتك. شكسبير كان كاتبًا رديئًا، لكنني أرى أن مسرحياتك أنت أردأ من مسرحياته»”.
معروف بالطبع موقف تولستوي من مسرح شكسبير مما جعل الروائي جورج أورويل يردّ عليه قائلًا: “بعد 40 عامًا ممَّا كتبه تولستوي، لا يزال شكسبير صامدًا في مكانته، لا يمكن أن يؤثر فيه شيء ولم يتبقَّ من محاولة تحطيمه سوى وُريقات صفر تحوي بيانًا بالكاد قرأه أحد، وكان في الإمكان نسيانه تمامًا لو أن تولستوي لم يكُن، هو نفسه، مبدع «الحرب والسلام» و«آنا كارينينا»”.
على ذكر الأدباء الروس، فقد قرأت إعلانا فيه كلمة “سواروفسكي”، جلست أفكر: أيّ كتاب له؟ وتخيلت أنه مؤلّف روسي، من جيل دستويفسكي، ثم انتبهت أنه محل مصوغات، أنا أبحث عن جواهرجي الأدب… محب الكتب يرى العالم مؤلِّفي كتب!
وعلى ذكر دستويفسكي، فقد قال عنه تولستوي: “لم يكن دستويفسكي يحب الأصحَّاء، وكان مقتنعًا بأنه ما دام هو نفسه رجلًا مريضًا، فالعالم كله لا شك مريض”.
سحر الخطيب المريض سعد زغلول
يصف الأديب يحيى حقي عن سحر الخطابة وتميُّز الزعيم سعد زغلول في هذا الفن رغم مرضه، فقد كان لحقّي شغف قديم بالخطباء، دسّ نفسه وهو تلميذ صغير يخاف الزحمة -فما بالك بالرصاص- وسط المتظاهرين حتى بلغ بيت الأمة ليسمع سعد زغلول. صورته الباقية عند الأديب حقي كخطيب تعود إلى يوم في سرادق كبير كأنه يوم الحشر.
يقول يحيى حقي: “هاج الجمع حين علم أن سعد زغلول معتذر عن الخطابة لأنه مريض، وأنه سيندب أحد أعضاء الوفد ليتحدث إلينا بدله. رأيته يشير إلى رقبته، يلفّها بكوفية. ويهزّ رأسه كأنما يقول: «لا، لا»، وهجم عليه رجال يجذبونه جذبًا إلى المنصة، وهو يدافعهم وتتشبث قدماه بالأرض ويثقل وزنه بين أيديهم، ولكنه غُلِب على أمره -أو هذا على الأقل ما فهمناه نحن، والله أعلم بصدق عزوفه- وبدأ كلامه بصوت خافت متقطع، رأسه كأنه مغروز في جسم بلا رقبة من أثر الانحناء.
وشيئًا فشيئًا دبّت فيه حركة -يا لها من حركة!- وحماس أيّ حماس! انتصب الرأس كأنه تمثال حيّ للنُّبْل والجبروت والاعتداد بالنفس. ذراعاه الطويلتان -كذراعَي الغوريلا- تضمان إلى صدره العريض أمانيَّ الدنيا، وتقصيان عنه في حركة واحدة كل خبائثها. ترتجف القلوب حين يشير بسبابته متوعدًا. رَفَعَنا وهبط بنا، أذاقنا السعادة والحسرة والأمل…. أربع ساعات كاملة لا ينقطع سحره، وخرجت سعيدًا مخدَّر الجسم مُتعَبًا ورأسي دايخة”.
من كتاب “خليها على الله” للأديب الكبير يحيى حقي.
سندرسن باشا طبيب العائلة المالكة في العراق
أحب زوايا المذكرات التي تأتي من شخصيات قريبة من صناع القرار، ولقد كتب كثير من الأطباء مذكرات مثل منير شماعة الذي عالج حكام من أسرة آل سعود، وطبيب صدام حسين اسمه علاء بشير وكتب مذكراته بعنوان صورة عن قرب، وكذلك مذكرات طبيب عبد الناصر الصاوي حبيب، بل للدكتور هشام عيسى طبيب المغني عبد الحليم حافظ مذكرات بعنوان “حليم وأنا“.
قرأت مؤخرًا ذكريات طبيب بريطاني، قلت لنفسي: هيا لأعرف ماذا رأى وسمع هذا الطبيب في بلاط الملك فيصل بن الحسين في العراق…
يحكي الطبيب سندرسن عن البريطانيين في العراق، وكيف لفت نظر فيصل ليضمه إلى أطباء القصر، وكيف حسده زملاؤه لأنه أصبح قريبًا من الملك، حتى إن بعض المديرين نقله إلى البصرة لكن فيصل اعترض ووقف قرار النقل.
تكمن أهمية شهادة سندرسن في حكايته عن طبيعة فيصل والأمراض التي كانت تصيبه، ويبدو لي أن فيصل كان جسده يتأثر بالسياسة وخيباتها، فتضعف شهيته أو يصبح شرها في التدخين. ولا حديث عن الخمر في الكتاب، لكن يبدو لي أن الدكتور كان يلتقط التفاصيل ويدوّنها أولًا بأول لأنه يدقّق في الأسماء والأماكن فوثّق لنا زيارة فيصل لبريطانيا ومَن قابل هناك.
كانت الزيارة في حدود عام 1925، سمع لورنس العرب بوجود فيصل في لندن فزاره في مقره، وهناك تكرر الحديث عن ترك لورنس أمور الشرق الأوسط، لكن لفت نظري قول طبيب الملك، إن فيصل نادرًا ما ذكر لورنس، وعند ذكره كان يصفه بـ”بالمسكين”.
وفي طريق العودة زاروا باريس، والتقى فيصل وعبد المجيد الثاني، آخر سلاطين الدولة العثمانية، الذي عُزل وعاش في باريس. من مفارقات التاريخ لقاؤه مع فيصل غريمه الذي قاتل العثمانيين في الثورة العربية، وفي هذا اللقاء بكى عبد المجيد وانتحب على ذهاب عرشه، وتَمنَّى فشل مصطفى كمال أتاتورك حتى يعود إلى الحكم، وعاش في أوضاع ضيقة لولا مساعدات مالية من نظام حيدر آباد والهند.
توقفت في القراءة عند نهاية عهد فيصل، فهو ما أبحث عنه حاليًّا، وتكمن فائدة القراءة في تلك الهمسات التي تخرج من القلم، وتضعنا في جو العصر، فمثلًا عندما يقول لنا: “قلِقَ فيصل من كثرة الفحوصات الطبية في بريطانيا لأن تكلفتها عالية”، يظهر هنا الوضع الماليّ للملك. وأختم بعبارة اقتبسها الكاتب من الشاعر شيلي عن حياة الملوك:
“الملوك أشبه بالنجوم؛ إنها تشرق ثم تغرب، إنهم يمتلكون العالم عادة، ولكن من دون اطمئنان!”.
أسلّي نفسي بمذكرات الأطباء وتأملاتهم حول الصحة والعافية.