سياسة
تصريحات نارية، وفقرات يومية، واستفزازات استعراضية؛ مهرجٌ برتقالي في سيرك دموي كبير، يصفق له الجميع ليزداد جنونا و”عبطًا” ككل الحيوانات التي يغريها الضجيج، ومن خلفه جوقة كبيرة من مجانين العالم، نتنياهو وسموتريتش والكونجرس والوزراء وعالم غربي ينتشي بوصول الرجل الأبيض، الأكثر تطرفا من الأكثر تطرفا، إلى السلطة، يمينٌ متوحش يستذكر مجازره بالهنود الحمر، ويستحضر ساديَّته في تعذيب العالم واحتلال أراضيه، وينفي شعبا كاملا عن الحياة مقابل ترّاهات رأسمالية للميارديرات السذج، ظانًّا أنه قد يشتري شبرًا في غزة، ولن يشتري ذرة تراب عالقة بنعل طفل مقابل ولاياته الخمسين كلها.
ثم يطلّ بوجهه المقزز من جديد، مهددًا بإعادة الحرب ووقف إطلاق النار وإدخال غزة وما حولها إلى الجحيم، إذا لم يفرج عن الأسرى لدى المقاومة دفعةً واحدة، بلا دفعات أولى، ولا مراحل ثلاث، ولا أي شيء مما جرى الاتفاق عليه، متفوقًا لأول مرة على غطرسة نتنياهو وغدر قومه وخيانتهم التاريخية، ليثبت مجيئه إلى الحكم يهوديا أكثر من اليهود أنفسهم، وحريصا على الصهيونية أحرص ممن يعيشون في تل أبيب، وليست تل أبيب نفسها بأقرب إلى “إسرائيل” من واشنطن، عاصمة أمريكا هي العاصمة الحقيقية للصهيونية العالمية، أما المدن المحتلة بأسماء عبرية فليست سوى “ستار” على البلاد الأم!
لا يقول ترامب هذا من باب الجنون ولا فقدان العقل والمنطق، وإنما بكامل وعيه وإدراكه، هو يريد أن يأخذ المسألة إلى تلك المساحة، يريد أن يأخذ القضية إلى تلك المفردات القصوى، يريد أن يفكك المعركة بهذا الوضوح، ويحدد من يقف في الصف الجديد دون مواربة، ومن يوارب مواقفه في انتظار تشكل الشرق الأوسط الجديد، يريد أن يقول للعالم إن هذا ما ينبغي أن يكون عليه العالم، بعيدا عن المواءمات السياسية، والخيانات النسبية، هو يريد عالما ينقسم إلى فسطاطين اثنين، ولا ينبغي أن يكون هناك ثالث، إما أن تكون مع غزة، الرجعية المتخلفة الإرهابية، ذات الموقف المعلن بشكل أقصى، في نظره، أو أن تكون مع أمريكا، بما في ذلك الوقوف البيّن مع “إسرائيل”، لتحصل على رضا الرب الذي يملك اقتصاد الدنيا في نيويورك!
تلك الحرب الكبرى المؤجلة، لا يريد ترامب تأجيلها إلى ما هو أكثر، ولا يريد أن ينفق جهدًا كبيرًا على استقطاب الأقطاب، واسترضاء القوى، وقطع المسافات، وتشكيل الحلفاء، بل يرى أن الجميع هم من يحتاجون إلى رضاه، وعليهم قطع المسافات وبذل الجهد لمحالفته، حيث جنّته الخضراء، بينما يدخل العالم إلى الجحيم، ولا يشكّ ترامب ومن على شاكلته ومن خلفه أنهم يخطئون قراءة الواقع، ويغيّبون معيارا أكبر من ميزان القوى التي على الأرض، متجاهلين ميزان عدل في المساء، والإله الحق، الذي يبتلي ما يبتلي، لكنه لا يسلم جنده إلي ضده، ولا ينصر أعداءه على رسله، ولا يمهل حتى يهمل، وإنما يعد جيشه، ويحشد صفوف عباده، ثم يهزم -لو أراد- الأحزاب وحده!
من البداية، حين أراد الله العزة لرجاله الغر الميامين في ميادين الوغى بغزة، وأجبروا العدوّ ومعه قوى العالم “الأبيض” في أشد تطوراتها وقدراتها على الانهزام أمامهم، وعدم تحقيق هدف واحد من أهدافهم، أو الوصول لأسير واحد من أسراهم طيلة 15 شهرًا، رأى ترامب الفرصة سانحةً ليركب الموجة، ولربما أقنع نتنياهو أنهما -بعد عام ونصف من الغباء- أذكى من عدوهما، وأكثر فراسةً وكياسةً من الفريق الذي يدبر الله له، وأنهم سيحصلون على بعض الأسرى ثم يعودون إلى القتال، وليذهب الوسطاء إلى الجحيم، ولتذهب غزة، ومن خلفها الجماهير التي تتفاعل معها، إلى ستين داهية، وانطلت تلك الخدعة على ترامب ونتنياهو وحدهما؛ فالله الذي نصر هؤلاء من قلة، وقواهم من ضعف، لا ينبغي إخراجه من المعادلة، حاشا لله أن يملك أحد شيئًا من ذلك وهو مالك كل شيء ومليكه، وكل ما يجري إنما يجري في ملكوته، ذلك النصر الذي سيتحقق بمراد الله ووفق خططه وتدابيره، على المرء أن يتربص فيها لثغره وجبهته، ويجد موقعه من المشهد العظيم القادم، سواء كان ترامب يهذي الآن، أو يقصد شيئًا، فإن الفرقان من بعد الطوفان قادم لا محالة، وحينها لا جبل يعصم من الماء، ولا سماء تقلع ولا أرض تبلع، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا!
وإن أكثر ما يؤرق ترامب في نموذج غزة هو “كسر إرادة” العالم “المتحضر”، هو أن بقعة صغيرة من الأرض تخضع لها ممالك ويخر لها ملوك وتذعن لها دول ويخرس أمامها أباطرة، وتجبر الأمريكي والإسرائيلي وهما يركبان أعلى ما في خيلهما على الجلوس كتلاميذ أمامها، يتفاوضون وتساومهم بأوراقها، وتلاعبهم بعزمها وجدها وجهادها، هو يريد أن يطفئ جذوةً مشتعلة سيمتد شررها، ولو اتسعت رقعة حرارتها أكبر فستهلك منظومة الاستعمار الغربي كاملة، وستسقط أمريكا في فراغ سحيق، أمام أحلامها المتضخمة وتاريخها المترهل، وواقعها الذي تبحث فيه عن أي سيادة في أي ناحية!
ما يزعج ترامب هي الـ”لا” الكبيرة، الهائلة، الضخمة جدا، الجريئة العالية المرتفعة الصاخبة، التي قالتها غزة بحرفين أبلجين، في وجهه النجس، وفي وجه المجهود الكبير الذي بذله ذلك المهرج، وأحلامه السفيهة هو وقومه، لجعل المنطقة ساحة لهوٍ للاحتلال، بتطبيعٍ يخلط الحقائق ويذيب الحدود بين المستعمِر والمستعمَر، ويجعل من البحر طحينة، فترد غزة من قلب أنفاقها: البحر لي، والبر لي، والجو لي، ولا تطبيع ولا مزج لحقائق، ولا فرض لواقع، هذه أنا، وليذهب العالم كله إلى الجحيم!