سياسة
اسألوا كل مواطن. قلتُها مرارًا وكنتُ أعنيها؛ كمواطنٍ ثم كمسؤول. إذ كيف نقيم أي سلطة في أي دولة إن لم يكن أداؤها وإنجازاتها خاضعين للقياس؟ كيف لدولةٍ لا توجد بها جهات رقابية تحاسب المقصر وتخضع المعوج للإصلاح والتقويم، بل والاستبدال إذا لزم الأمر؟
ماذا فعلت هذه السلطة بالجهات الرقابية الحكومية التي خوّلها الدستور والقانون مراقبة الأداء التنفيذي والتشريعي والقضائي، ووضعه تحت المجهر وحساب أنفاسه بالمجسات المجتمعية؟ كم من تقرير وطلب استجواب قُدِّم عن تقصير هنا أو فساد هناك؟ وماذا كان مآله؟ وكيف تُمارَس الرقابة في ظل سلطة تخلط بين السلطات التي حددها الدستور بالفصل الكامل لصلاحياتها؟
ما تدّعيه السلطة من إصلاحات مالية واقتصادية لا يرقى لكونه سوى إرهاصات فردية، بلا خطة، بلا دراسة، وبلا جدوى. لقد فرضت شروط الإقراض الدولي أعباء فوق الأعباء على كاهل المواطن. المواطن… صاحب الحق الذي يظلمه الجميع وينساه الجميع. الناخب الذي بيده كل شيء، ومن أجله ولديه يعمل الجميع.
فأي خطة هذه التي ترفع الدعم وتفرّط في مشروع مصر الصناعي وتستهلك أصول الدولة، بل وتفرّط فيها بالبيع؟ أي خطة تلك التي تستأثر فيها الأجهزة التي ترى في نفسها “سيادة” وتسمي قراراتها “سيادية”، بالأمر المباشر، لتجسّد على المواطن مرؤوسها الذي تدّعي السيادة عليه فتحتكر المشاريع الكبرى؟
كيف لنا أن نرى شبكة طرقٍ استهلكت مليارات الجنيهات -وجمعتها عشرات الأضعاف من ملايين العابرين على مفاصل المدن بالإتاوات- على أنها مشروعٌ قوي يستحق الفخر والتفاخر؟ كيف للوحات الإعلانات التي تغشى الأبصار على الطرق أن تبرر سفه الإنفاق وسوء التصرف؟ كيف لدعايات المنتجعات والفقاعات السكانية الموصدة أبوابها أمام المصريين أن تسد الحاجة وتوفر الزاد وتكرم المصريين في معيشتهم؟
في نظام ديمقراطي حلمنا به وزرعنا الأمل فيه أشجارًا لأبنائنا ومن بعدهم، تُدار السلطات بالعلم والخبرة والكفاءة، لا محل للولاءات العمياء ولا للمحسوبية الضامنة. تُنفَّذ المشروعات بالدراسة والتحليل والإدارة المنظمة، بل وتخضع كل جهةٍ تُصرف لها ميزانيةٌ من قوت هذا الشعب لجهازٍ رقابي محكم بآلياتٍ محددة وصلاحياتٍ تفوق السيادية. الحلم ليس بعيدًا، فمصر لا ينقصها الكفاءات ولا الموارد ولا الدستور ولا القانون، اللهم إلا بُعد نظر لدى سلطةٍ يُفترض أن ترسم لنفسها خططًا قصيرة المدى ومتوسطة وطويلة، تُخضع فيها نفسها للمساءلة أمام مجلس النواب، ويختصم فيها المتضررون والمفروضة عليهم الرقابة أمام قضاء نزيهٍ عادل، يخضع بدوره لمحكمةٍ دستوريةٍ قوية تُقوِّم التشريعات وتفصل في النزاع الذي يمس سيادة الدولة ونظام العمل فيها، ممثلًا في دستورها.
يُقاس أداء السلطات بأمرين في مدةٍ زمنيةٍ محسوبة: الكفاءة والنزاهة. أما عن الأولى، فقد ثبت قطعًا فساد السلطة الحالية وفشلها الذريع في إدارة أبسط الملفات وأعقدها، من السياسات الصحية والتعليمية والبيئية، وحتى الحفاظ على مياه النيل وأصول الدولة وممتلكاتها وأراضيها ومكامن الخطر الاستراتيجي على حدودها.
وأما عن النزاهة، فحدّث ولا حرج، فالأمر بديهي ولا يحتاج إلى خبير، أينما غابت الرقابة غاب الانضباط، ناهيك عن النزاهة ونظافة اليد. لا يمكن للمواطن ممارسة حقه الدستوري بالتصويت لينتخب عن نفسه من يصلح إلا بالشفافية الكاملة حول من يمكنه الأداء والانضباط ومراقبة النفس، وإن لزم، يستشار المواطن ويتحاور ويختار بواسطة نائبيه وأجهزته في المجتمع المدني، ويا حبذا لو له في كل سلطةٍ رقيبٌ وحسيب. هذا الأمر يستحيل عمليًا تحت ركام الاحتكار والمحسوبية، بل والتغافل أو التواطؤ مع الأداء الضعيف الهش أو المنحرف.
في المئتي عام الأخيرة، تغنّت أنظمةٌ متتاليةٌ بمشاريعها ورؤاها، حققت منها ما حققت، ولربما علّقت إخفاقاتها على من سبقها أو من سيلحقها. لكن الحقيقة كالشمس لا تُغيب ولا يمكن حجبها، جاءت الأنظمة وذهبت، وبقي تاريخها يلاحقها، فيما حققت وفيما خابت.
هذا البلد يستحق الأفضل، لا يستحق أبدًا أسوأ سلطةٍ مرّت عليه في المئتي عام الأخيرة.