مدونات
للكاتب: عادل العوفي
من المؤكد أن الطغاة لا يقرأون التاريخ جيدًا؛ فكل واحد منهم يظل أسير نوبات أوهامه التي تحكمه وتغشي بصره عن النبش في دفاتر الماضي للاتعاظ من كبوات غيره وزلاته. والدليل ما نشاهده هذه الأيام من عنتريات سيد البيت الأبيض القديم/الجديد، أبو إيفانكا، دونالد ترامب، الذي ترك كل مشاكل بلاده وتفرغ للتنظير علينا، لا بل ورسم مستقبلنا بمنتهى الصفاقة، ظنًّا منه أنه سينتقم لضيفه المجرم نتنياهو، بعد أن مرغ بواسل القطاع كرامته في الوحل وأذاقوه الويلات خلال الخمسة عشر شهرًا من عمر الحرب.
نسي أو تناسى هذا المهرج أنه لم يأتِ بجديد يُذكر، ولا شيء من بنات أفكاره يستحق كل البهرجة التي يسعى لخلقها بإعطاء الأوامر يمينًا ويسارًا، دون أن يعي أنها سرعان ما تتبخر قبل أن تصل للقطاع الأبي، ولا أحد يكترث بخططه ومخططاته الدنيئة. غير أن ذلك لن يمنعنا من العودة للوراء وكشف السجل الحافل للمحاولات الصهيونية الفاشلة التي سعت للاستحواذ على غزة وتفريغها من أهلها تحت مسميات متعددة، مثل “الترانسفير”، و”الطرد”، و”الإفراغ”، أو حتى بلهجة “مهذبة” كما سماه البعض آنذاك: “تخفيف أعداد السكان”.
أوهام حكومة أشكول وموشيه ديان
بعد نكسة حزيران 1967، التي أفرزت احتلال غزة والضفة الغربية، كان عدد الفلسطينيين في القطاع 400 ألف، بدأت سلسلة من المحاولات الإسرائيلية لتهجيرهم، حيث صرّح وزير الجيش حينها، موشيه ديان:
“إذا تمكنا من إخلاء 300 ألف لاجئ من قطاع غزة إلى أماكن أخرى، فيمكننا ضمه من دون مشكلة”.
رحبت الحكومة بفكرته التي تقضي بضم القطاع وإفراغه، ثم توطين اليهود فيه. رد عليه رئيس الوزراء، ليفي أشكول، قائلًا:
“أقترح ضم القدس وقطاع غزة، رغم أنني لن أقول الأمرين في نفس الوقت. نحن مستعدون أن نموت من أجل القدس، وعندما نتذكر أيضًا وجود 400 ألف عربي، فإننا نشعر بمرارة في القلب”
وضمن الحلول المقترحة، استعرض وزير الداخلية، حاييم موشيه شابيرا، نقل 200 ألف فلسطيني إلى العريش أو توطين جزء منهم في الضفة الغربية، بينما رأى وزير الشرطة، إلياهو ساسون، أن نقلهم للأردن هو الحل الأنسب. أما الوزير يغال ألون، فقد اقترح ترحيلهم إلى سيناء كلها، وليس فقط مدينة العريش، وأكمل حلوله الرهيبة باقتراح نقلهم إلى كندا أو أستراليا.
لجنة خاصة لبحث الحلول:
لم يقتصر الموضوع على الحكومة، بل امتد ليصل إلى تشكيل لجنة سُمِّيت “تنمية الأراضي المحتلة”، ضمّت شخصيات أمنية وأكاديميين لطرح أفكار مناسبة لتهجير أهل القطاع، وتقديم توصيات ملائمة للسلطات قصد تنفيذها. ومن بين الأفكار التي شجعتها اللجنة:
حقبة غولدا مائير
بعد وفاة أشكول سنة 1969، تولّت حكومة غولدا مائير مهمة استكمال الخطط الخبيثة ذاتها، مع وجوب الاستمرار بالعمل في الخفاء وعدم إظهارها للعلن، خوفًا من العواقب. ومن أهم الأفكار المتداولة حينها ما ذكره وزير التنمية، حاييم لاندو، الذي دعا إلى توفير التعليم المهني للفلسطينيين في غزة، لأنه سيساهم في تحفيزهم على الهجرة والبحث عن فرص أفضل في بلدان أخرى.
أما موشيه ديان، فقد اقترح منح مهلة 48 ساعة للفلسطينيين المتهمين بـ “الإرهاب” ضد اليهود، ومنحهم خيار الانتقال طوعًا إلى العريش أو إلى أي مكان آخر، على أن يتم نقلهم بأمتعتهم بواسطة السلطات الإسرائيلية.
فيما رأى وزير السياحة، موشيه كول، أنه يجب التخلص من سكان قطاع غزة مهما كانت التكلفة، ودفع تعويضات أكبر للأشخاص الذين يرغبون في الهجرة.
من زئيفي إلى شارون
ومنذ سنة 1970، ظلّت المقترحات تراوح مكانها، وباءت كل المحاولات بالفشل الذريع. وتجددت هذه الأفكار عند اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، حيث اقترح الوزير رحبعام زئيفي، الذي اغتيل لاحقًا على يد المقاومة سنة 2001، تنفيذ النقل الطوعي للفلسطينيين، وتشجيع ترحيلهم للدول العربية من خلال وقف عملهم داخل الأراضي المحتلة، وإغلاق الجامعات الفلسطينية، ووقف أنشطة الصناعة معهم، ومنح مبالغ مالية لمن يقبل بالهجرة.
أما السفاح أرئيل شارون، حين كان وزيرًا للصناعة والتجارة، فقد تحدث عن تأسيس مركز سري داخل غزة، تحديدًا في شارع عمر المختار، يقدم تذكرة سفر بلا عودة إلى دول مختلفة في أمريكا اللاتينية، وتحديدًا باراغواي، بواسطة وكالة سفر مقرها الرئيسي في تل أبيب، تعد المقبلين على خططها بمساعدات مالية لضمان استقرارهم في البلد الجديد. وظلت المنظمة تعمل لمدة ثلاث سنوات، لكنها لم تنجح سوى في استقطاب ألف فلسطيني سرًا، قبل أن تختفي من الوجود.
عقودٌ ممتدة من المحاولات المتراوحة بين السرية والعلنية، وكلها واجهت مصيرًا واحدًا: الفشل. ولهذا بدأنا هذه المادة بأن الطغاة أميون في دراسة التاريخ، وهلوسات الرئيس الأمريكي تنمّ عن جهل طافح بتاريخ فلسطين وأهلها. ومن هذا المنطلق، ورغم السواد القاتم المحدق بنا عربيًا، ننظر إلى غزة وأهلها فيتجدد فينا الأمل، لأن هذا الشعب لا يعرف المستحيل، ويقهر أعتى المجرمين، ويلقّنهم الدروس، مهما تكالبت عليه كل قوى الشر والظلام.
ونختم بما كتبه الكبير محمود درويش، واصفًا غزة العزة:
“لأن الزمن في غزة ليس عنصرًا محايدًا، إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالًا في أول لقاء مع العدو.. القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال، هذه هي المنافسة الوحيدة هناك.”