آراء
كنت طالبًا في الجامعة، أسير مع أحد الأصدقاء، وقال لي: ماذا تفعل لو أصبحتَ غنيًّا؟
قلت له: أزور معارض الكتب في كل الدول!
هز صديقي إبراهيم رأسه وردّد بحكمة: إنت فاهم الغِنى غلط!
أتابع حركة القراء في معرض القاهرة الدولي للكتاب، فقد وصل عدد الزوار إلى خمسة ملايين، وأبحث في صور مقتنيات القراء التي ينشروها على وسائل التواصل الاجتماعي، وأترقب جديد دور النشر، وتعريف المؤلفين بكتبهم الجديدة، ونقاشات المترجمين عن الترجمة والعناوين الجديدة، ألاحظ هذه الفرحة في لقاء مؤلفين من دول الخليج العربي مع مصريين وفاعليات ثقافية على هامش المعرض، أظن أن معارض الكتب هي عيد القراء، تذكرهم أنهم ليسوا وحدهم الذين أصيبوا بداء حب الكتب والرغبة في الاقتناء، يتعرفون إلى هذه الفصيلة النادرة من الناس الذين يَغْشَون المعارض ويتناقشون مع البائعين وتتكدس الكتب في رفوف بيوتهم وخلف التلفاز وفي داخل دولاب الملابس… إنهم بهذا الجنون يملكون نسب وصلة معًا، يصرفون الأموال والمدخرات، بل يستدينون بسبب الكتب.
آلمني منشور كتبه المؤلف والباحث حسام عبد الظاهر: “أنا الآن في أتوبيس 1111 في طريقي إلى معرض الكتاب في آخر أيام زياراتي له هذا العام، حتى لا أُضطرّ إلى إعلان إفلاسي والانتقال إلى مرحلة القروض، وهي المرحلة التي قررت بناء على تجربة أليمة سابقة ألا أذهب إليها مُطلَقًا مرة أخرى ما حييت، ولو كان ذلك من أجل أكثر ما أحببته في هذه الدنيا، وهو الكتب طبعًا، التي يجوز في عرفي أن أكسر اللغة وأقول عنها «أكثر مَن أحببته»، فهي أكثر الأشياء حياة وتعقلًا”.
هذا رجل مؤلّف صدر له “معركة تاريخ التمدن الإسلامي“، وجمع تراث المؤرخ محمد شفيق غربال، وأصدر كثيرًا من الأبحاث والتحقيقات، يقلق من الاستدانة من أجل الكتب! مساكين الكتب الذين تبعوا سحرها وغوايتها، أخبرني قرصان صديق يصور أهم الكتب النادرة في العالم العربي بهاتف بسيط ويعتني بها ويرفعها على الإنترنت، من الكتب النادرة التي لم تعد تصدر وليست متوفرة على الإنترنت، سألته عن عمله وسط حديثنا عن الكتب، فكانت إجابته أنه لم يعثر على عمل منذ عام كامل! سبحان الله! رجل له دين في رقبة كثير من مُحِبِّي القراءة والكتب، ولا يجد وظيفة، وما زال يُثرِي المحتوى العربي بنوادر ومنشورات لا نعثر عليها بسهولة.
عشقت معارض الكتب منذ صغري، سافرت إليها وأنا صغير مع الأستاذ عيسى، الرجل الذي ربَّانِي واهتم بي وتعلمت منه كثيرًا، وعندما كبرت اختلفنا كثيرًا، لكن بقي في رقبتي دَين ثقافي ومعرفي كبير؛ منه حصلت على كثير من الكتب، وأخذني معه إلى معرض الكتاب، وكان يحُلّ أحيانًا في حياتي ويقوم بدور الأب بعد وفاة أبي عبد العزيز رحمه الله، وكان يعطف عليّ ويهتم بي، ولا أنسى زيارتي لمعرض الكتاب الذي حصلت فيه على سيرة عبد الوهاب المسيري ورحلته الفكرية، كان الكتاب قفزة كبيرة في سنواتي الجامعية وأنا طالب في كلية الآداب، لم يكُن معي ما يكمل مبلغ شراء الكتاب، ودفعت كل ما معي، ودفع لي صديقي في الكلية مصاريف العودة من القاهرة إلى طنطا. ومع سفري حول بلاد العالم بقي الشغف بمعارض الكتب، أزورها وأتابع ما يصدر عنها.
غضبة مُضَرِيَّة مع محرِّر ثقافي
لا أنسى غضبي عند زيارة مدير الصفحة الثقافية في إحدى الصحف العربية، حين أخذ ينتقص من معرض القاهرة، وكنت سألته لماذا لا تغطي الصحيفة جديد الكتب في المعرض، فأرسل يده في الهواء في حركة انتقاص من المعرض وما يصدر عنه، وأخذ ينتقص من الشأن الثقافي في مصر. ولقد غضبت يومها وغلى الدم في عروقي، هذه الغضبة المُضَرِيَّة التي تقرأ عنها في شعر بشار بن برد:
إذا ما غَضِبْنا غَضْبَةً مُضَرِيَّةً هَتَكْنا حِجَابَ الشمسِ أو تُمْطِرُ الدَّمَا
غضبتُ من هذا الظلم، فقد كان المعرض يفرز كتابات لمؤلفين مصريين وترجمات متقنة تحتل دائمًا مكانة في جوائز الترجمة في العالم العربي، غضبتُ من هذا الاستخفاف، وأدّعي أنني رجل لست شوفينيًّا ولا أُغرَمُ بمدح مصر والمصريين، لكنْ أغضبني استخفاف المحرر الثقافي بمجال ثقافي يحفر أبناؤه في الصخر بلا رعاية من الدولة أو دعم من المؤسسات، حتى يكتبوا ويترجموا ويؤلفوا، أو يقرؤوا ويقتنوا إن كانوا من القراء، وأنا أعرف كثيرًا من هذه الفصيلة التي تدّخر من أجل الكتاب وتمنع نفسها ملذَّات كثيرة من أجل هذا الورق السحري، عاشرتُهم سنين طويلة ورأيتهم أمام المكتبات وفي بسطات الكتب المنتشرة من الأزبكية إلى شارع النبي دانيال في الإسكندرية وشارع طه الحكيم في طنطا.
في معرض كتب المنامة
ولقد سافرت لاحقًا وأصبحت أزور عديدًا من المعارض، زرت معرض المنامة مع رفيقي، وبخطأ في تجديد الإقامة لم أستطع الدخول، وأخذت أشرح لضابط الجوازات كيف يسمح بدخول غريبي الأطوار من محبي رياضة الفورميلا وسباقات السيارات وتغطّي وجوههم وأيديهم الوشوم والملابس الممزقة، وأنا العربي على باب المطار لا يسمحون لي بالدخول، فقال لي: لماذا أتيت إلى المنامة؟ قلت: حتى أحضر معرض الكتاب. قال: “لهذا السبب لن تدخل؛ لا نحب زيارات المثقفين”. وكانت تلك الزيارة قريبة من فترة اضطراب سياسي في البلد. وافق الضابط لاحقًا على دخولي لمدة ثلاثة أيام فقط.
في معرض بيروت
زُرتُ معرض الكتاب في بيروت، وكتبت ساعتها: في يوم ما جربت بعض الأشياء التي كنت أشعر أنها من سحر وتوهُّج السينما، مثل أن أصل إلى مدينة باردة في الشتاء مرتديًا معطفي الثقيل، لا أحد في المطار في استقبالي، أتفق مع سائق وأبدأ التحدث معه، والشوارع مغسولة بماء المطر. حدث ذلك وشعرت لحظتها أنه يوافق ما شعرت أنه حلم يومًا ما، مررت بشارع الحمراء وسألت عن حجز الفندق، نِمتُ ليلتها وأنا أشعر برغبة في أن أجوب كل الشوارع، لكن لم أحب أن أسير بمفردي. نِمتُ وأنا أشعر أن هذه الرحلة كانت حلمًا، حتى حينما أتذكرها الآن أفكر ما الحلم وما الحقيقة في تلك الرحلة!
كنت قبلها مغتربًا مشتاقًا إلى خبز أمي، لكني طلبت طبخًا من يدها، على أن يحمله صديقي يوسف، فهو قادم من مصر، وطبخَت أمي المحشي واللحم، وتَخيَّل قارئي العزيز هذا الفتى الذي وصل إلى بيروت، يجلس في غرفته يأكل المحشي في جوف الليل، يريد أن يتدفأ بشيء من رائحة الأم.
كتب الناقد عبد الفتاح كيليطو: “ما يفتقده المرء كثيرًا في غربته، من بين أشياء كثيرة يفتقدها، هو الطعام، وقد يؤدِّي الأمر إلى فقدان الشهوة، في القرن السابع عشر كتب الحسن اليوسي في كتابه المحاضرات، أن علاج المغربي حينما يمرض وهو في الغربة أن تطعمه الكسكس، يفتقد إدوارد سعيد طعام أهله القاهري ويفتقد بدرجة أكبر بلا شك اللغة العربية”.
في معرض كتب الدوحة
عندما عشت في الدوحة أصبح المعرض فرصة للقاء المؤلفين والناشرين، وأبدأ بالذكريات الأحدث إذ تجوَّلت في معرض العام الماضي مع أ.عارف حجاوي، ورأيت أ.خليفة المحمود يتجول بين رفوف المعارض، ثم ألمح صديقي يوسف يحمل كتبًا انتقاها بذوق عالٍ وبحث متقن، لا يمدّ يده بكيس الكتب، لكن فضولي يجعلني أنظر في العناوين التي اختارها، وهو يسمح لي لطول العشرة بيننا، ثم ألمح رياض المسيبلي يحمل الكتب الكثيرة المنوعة، في فنون كثيرة وعلوم متنوعة، بلغني صديقي أنه رأى رياض، وهو يمنيّ قح، يشتري كتابًا عن اللهجات السودانية أو عنوانًا غريبًا، صديقي مسكين من مساكين الكتب.
وكنت أتجوَّل معظم يومي في المعرض وأتذكر أول كتاب اشتريته من معرض الدوحة، كان اعترافات روسو بترجمة خليل رامز سركيس، وهو كتاب بطعم حلوى التيراميسو المغمسة في القهوة، فقد جربتها يومها لأول مرة في حياتي على هامش المعرض.
كنت أتصفح الكتب في المعرض واشتري كثيرًا منها لمكتبة عملي عندما كنت موظَّفًا في “كتارا” أو الحيّ الثقافي، وأتعرف إلى الناشرين الذين يجدون فيّ فرصة لزبون يحمل كثيرًا من العناوين، وفي إحدى السنوات كلّفني عملي شراء كثير من المراجع والكتب لمكتبتهم، وكان المسؤول يقابلني صباحًا فيعطيني مبلغًا قد يصل إلى عشرين ألف ريال، وأقضي سحابة اليوم في الانتقاء والبحث حتى تُؤَسَّس مكتبة منوعة في مركز الدراسات الذي كنت أعمل به، وأظن أن مشتريات هذه الدورة من المعرض بلغت ما يقارب 60 ألف ريال، كان لي نصيب كبير في اختيار العناوين، وفي ذلك العام قد يكون 2014- أشبعت شهوة شراء الكتب إلى الأبد، فلم أعُد أتخيل حصولي على مبلغ كبير للشراء، فقد جربت هذه الحالة وتجاوزتها، وأصبحت أكثر انتقاءً في اختياراتي الشخصية، ورغم حبي للكتب فأنا أتخلى عن الكتاب بسهولة إذا كنت لا أحتاج إليه، أو قرأته جيدًا، خصوصًا إذا كان متوفرًا إلكترونيًّا، فأنا مستعدّ للتفريط في النسخة الورقية بالإهداء أو التبرع -ليمتنع القراء الطماعون عن طلب كتب مني بعد هذه الفقرة رجاء- فأنا مشغول بمعرفة محتويات الكتب أكثر من الفرح بامتلاكها.
على أن خوفي من حصول شخص آخَر على كتبي هو اكتشافه الفقرات التي ظللتها، يقول تُرجُت أُيار، وهو شاعر تركي: “أخشى كثيرًا أن أُعيرَ أحدًا ما كتابًا خطَطْتُ على بعض فقراته… يبدو الأمر كأنني أُسلِّمه جراحي، يبدو الأمر كأنني أقول له: “انظر، ها هنا يؤلمني كثيرًا”. والفقرة من ترجمة أ.عمير الأحمر من التركية.
وأتذكر صديقي الذي سأل عن عنوان كتاب، فأخبره البائع بالسعر، فأخذ صاحبي يحول السعر إلى الجنيه المصري ونحن خارج مصر، ويقول لي الكتاب غالٍ، وقد كان سعره معقولًا وهو مقتدر، لكنني يومها اكتشفت أن الأموال التي يدفعها القراء بحب وسهولة قد تكون أصعب على الآخرين، ويبخلون بها عن هذه اللذة، فقد رأيت مؤخَّرًا شابًّا يطلب مني استعارة كتاب بذلت المال في طلبه من بلد بعيد، مع مَشقَّة مصاريف الشحن حتى أظفر به، ثم طلبه مني، وأردت أن أعرف هل هو مستعد لكي يرضي فضوله لبذل المال إذا دلَلتُه على مكان بيعه، فرفض وتكاسل عن طلبه أو البحث عنه.
تذكرت الآن قصة المترجم الكبير الذي حصل على جائزة قيمة في إحدى مسابقات الترجمة، ودخل على إحدى الشخصيات المهمة حتى يشكره على الجائزة، فخرج المترجم عن طوره وأخذ يترنَّم بالموشَّح الأندلسي:
جادَكَ الغيْثُ إذا الغيْثُ هَمَى
يا زَمانَ الوصْلِ بالأندَلُسِ
لمْ يكُنْ وصْلُكَ إلاّ حُلُمَا
في الكَرَى أو خُلسَةَ المُخْتَلِسِ
معرض إسطنبول وأورهان باموق في طنطا
كان لي تجربة أيضًا في معرض الكتاب بإسطنبول، لكنه كان معرضًا متواضعًا، لكني كنت أحرص على الذهاب إليه، ومقابلة أصدقاء قراء عرب من جميع الجنسيات، وذات مرة وضع تليفزيون سوريا استوديو مع المذيع ياسر الأطرش وسط المعرض، وصورت معهم حلقة عن كتاب جديد صدر حديثًا هو لماذا لا توجد عصور وسطى إسلامية؟ للمستشرق توماس باور، ترجمة عبد السلام حيدر.
أورهان باموق صاحب واحدة من أجمل افتتاحيات الروايات، ففي روايته الحياة الجديدة يقول في السطر الأول: “قرأت كتابًا في يوم فتغيرت حياتي كلها”، والكتب تغيِّر حياة الإنسان، يحكي الروائي ماريو بارجاس يوسا عن لحظة قراءة رواية مدام بوفاري لفولبير عندما وصل إلى فرنسا: “سارعت إلى مكتبة في الحي اللاتيني واشتريت نسخة من رواية «مدام بوفاري»، وبعد أن أمضيت الليل بكامله في قراءتها، أدركت عند طلوع الفجر أي نوع من الكُتّاب أريد أن أكون، وأني، بفضل فلوبير، بدأت أتبيَّن جميع أسرار فن الرواية”.
ويصف باموق الكتابة الجيدة: “هي أن يقول القارئ كنت أريد أن أقول نفس الشيء أنا نفسي، لكني لم أستطع السماح لنفسي بأن أكون بهذه الطفولية!”.
وقصة تَعرُّفي إلى باموق قديمة منذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا في طنطا، كنت أسير مع صديقي إبراهيم الذي حكيت لك عنه في افتتاحية المقال، وكان معه ورقة بمئة جنيه، فقال لي: أريد أن أفكّ هذه المئة. قلت له بخبث: نفكّها في المكتبة. ودخلنا المكتبة القومية، وأنا أرتدي ملابس رياضية بعد صلاة العشاء، وقال لي البائع إن كتاب ألوان أخرى لأورهان باموق وصل إلى المكتبة، نظرت إلى البائع وأنا ابتسم ببلاهة، فقد كنت طالبًا جامعيًّا بسيطًا لا يملك المال إلا بالعمل في الإجازات الصيفية، وللأمانة كان معي ما يكفي لشرب عصير القصب لشخصين، ابتسم إبراهيم ورأى شدة رغبتي في الكتاب وأنا أرجعه إلى مكانه في الرف، قال إبراهيم ساعتها: أنا سأدفع ثمنه. ودفع خمسين جنيهًا بكل كرم، ولم أنسَ لصديقي أنه دفع نصف ثروته حتى أحصل على كتاب جديد، وعُدت فرحًا إلى البيت وشربت عصير قصب وأنا أردِّد: نخب حب هؤلاء الأصدقاء والكتب الجديدة!