للكاتب: معتز خفاجي
في التاسع من يونيو 1967، امتلأت شوارع الجمهورية العربية المتحدة، وتحديدًا القاهرة، بجماهير الشعب مطالبةً الرئيس المهزوم بالعدول عن استقالته وتنحيه والعودة إلى منصبه. فهل هذا ممكن؟ مباشرة بعد أكبر هزيمة في تاريخ مصر والأمة العربية، خرج الشعب مطالبًا بعودة الرئيس، وهو أبرز مثال على ظاهرة “المخلّص المنتظر” في أي أمة، وخصوصًا الأمة التي تمر بأزمة وجودية.
التشكيك في مصداقية تلك المظاهرات ليس محور النقاش، بل الأهم هو فهم شعبية جمال عبد الناصر في ذلك الوقت، والأسباب التي دفعت الجماهير إلى النزول للشارع من أجله. فشعبيته الطاغية حينها كانت نتيجة لإنجازات العدالة الاجتماعية التي تحققت في عهده، بالإضافة إلى الدور الكبير للبروباغندا الناصرية، التي لم تقتصر على مصر فقط، بل امتدت إلى جميع أقطار الأمة العربية. لكن، هل نزل الشعب مطالبًا بعودة الرئيس بسبب إيمانه بالمشروع الناصري فقط؟
المخلّص وظاهرة الترابط العربي
ترابط الشعوب العربية، من أقصى نقطة في تطوان إلى أبعد نقطة في الأحواز أو عمان، لا يظهر فقط في الوحدة اللغوية والثقافية والعقائدية، بل يُلاحظ أيضًا في الأزمات التي تواجه هذه الشعوب، حيث تتشارك في سيكولوجيتها الجمعية، ما يجعلها تتفاعل مع الأزمات بطريقة متشابهة. وهذا يعود إلى تقارب المشاكل والأنظمة السياسية في تلك الدول. وأبرز تلك الأزمات التي لم تأخذ حقها من التحليل، هي أزمة “المخلّص”.
في ظل العولمة الحديثة، يتزايد الإحساس بالفردية على المستويين الشخصي والاجتماعي، مع تقديس قيم مثل حقوق الإنسان والملكية الفردية. لكن على الصعيد الآخر، هناك تقليل لدور الفرد في السياسة والمسؤولية المجتمعية. ففي دول العالم الأول، غاب مفهوم الزعيم المخلص، ليحل محله النظام المؤسسي، حيث لا تُمنح أهمية استثنائية للفرد الحاكم بقدر ما تُمنح للمؤسسات التي تدير الدولة. وهذا يتناقض مع العقود السابقة، التي قدّست قيمة الفرد السياسي، سواء كان ملكًا أو قائدًا عسكريًا، بينما همّشت حقوق الأفراد الاجتماعية، مثل الملكية الخاصة وحرية التعبير.
لكن في مجتمعاتنا العربية، ورغم أننا التحقنا بركب العولمة في بعض الجوانب، مثل النزعة الاستهلاكية، والتغير في العلاقات الأسرية، وزيادة الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الطبقات، إلا أننا لم نواكب هذا التغير في علاقتنا بالحكم والسياسة. فما زال الشعب العربي متشبثًا بفكرة الزعيم المخلّص، الذي يُنتظر أن يأتي من العدم، ليزيل آثار الذل والهزائم، وينقلنا إلى المستقبل المنشود دون أن نحتاج إلى بذل أي مجهود حقيقي لتحقيق ذلك.
أسباب الحاجة إلى المخلّص
يمكن تلخيص أسباب تعلق الشعوب العربية بفكرة “المخلّص” في النقاط التالية:
الاتكالية الاجتماعية السائدة
على مرّ التاريخ، كانت المجتمعات تتكوّن من أغلبية من العوام، الذين يتبعون النظام السائد في مجتمعاتهم دون رغبة في التغيير أو القيادة. ففي الدول التي تجاوزت الحاجة إلى “المخلّص”، لم يكن ذلك نابعًا من سيكولوجية شعبية جديدة، بل كان نتيجة لنظام سياسي مؤسسي، يجعل القيادة أمرًا وظيفيًا أكثر منه شخصيًا.
أما في عالمنا العربي، فما زالت الشعوب متمسكة بفكرة الزعيم القوي، سواء كان حاضرًا أو غائبًا، فلا فرق بين الولع بزعيم قادم أو الحنين إلى زعيم سابق. وهذا الولع ناتج عن غياب المؤسسات الفاعلة القادرة على تعويض الدور الذي يؤديه القائد الفرد.
الخلفية التاريخية العربية
على مر العصور، ارتبط التاريخ العربي بشخصيات فردية قادت الأحداث الكبرى. فلم يكن التأريخ قائمًا على النُخب أو الفئات الاجتماعية، بل على الأفراد القادرين على تحريك الجماهير وتغيير الواقع.
فعلى سبيل المثال، تحرير القدس من الحملات الصليبية ارتبط باسم صلاح الدين الأيوبي، ودحر التتار كان بقيادة سيف الدين قطز، والثورة العربية الكبرى نُسبت إلى الشريف حسين، وتأميم قناة السويس كان في عهد جمال عبد الناصر. ولو استمررنا في ذكر القادة الذين ربطت بهم الأحداث التاريخية، لما كفتنا الصفحات.
لذلك، فإن أي تغيير في هذه العقلية الجماعية لا يمكن أن يحدث إلا من خلال نخبة ثقافية تعمل على إعادة قراءة التاريخ بطريقة مختلفة، تبرز دور المؤسسات والمجتمعات، وليس الأفراد فقط.
اليأس من التغيير
الوضع الحالي للأمة العربية يُعدّ من أسوأ الفترات في تاريخها الحديث. فهناك إبادة مستمرة لشعبنا في غزة، وعدوان عسكري غاشم على لبنان، واجتياح للأراضي السورية بعد سقوط نظام الأسد، والقصف المستمر على اليمن، ناهيك عن الحرب الأهلية في السودان، وعدم الاستقرار في ليبيا، والأوضاع الاقتصادية والسياسية المتردية في بقية الدول العربية.
في ظل هذا الواقع المأساوي، يشعر المواطن العادي بعدم قدرته على التغيير، أو حتى المحاولة. وهنا تتعزز فكرة المخلّص، فالشعب ينتظر زعيمًا يحمل عنه العبء، يقود ثورة التغيير، ويحقق العدالة، دون أن يُطلب من الناس أي مجهود سوى الإشادة به والدعاء له سرًا، وربما علنًا. فالبؤس الجمعي يؤدي دائمًا إلى انتظار الخلاص، ولا يخلّص إلا مخلّص.
مثال حديث على ظاهرة المخلّص
من أبرز الأمثلة الحديثة على “المخلّص”، حالة أحمد الشرع في سوريا. فقد أحاطته هالة إعجاب كبيرة من الشعب السوري، بعد أن تزعم الفصائل التي أطاحت بنظام الأسد. والمثير للاهتمام أن حتى المختلفين معه أيديولوجيًا، ينظرون إليه بإعجاب، بل ويدعمونه، ليس لأيديولوجيته، بل لشخصه.
والفئة الوحيدة التي لم تنجرف خلف هذه الظاهرة، هي النخبة ذات الأيديولوجيات المخالفة له، التي ترى في شخصنة النضال خطرًا على مستقبل سوريا.
الخاتمة
كل ما سبق يؤكد أن التعلق بالمخلّص هو نتيجة طبيعية لحالة عدم الرضا عن الأوضاع السائدة. لكنه في الوقت نفسه، أحد الأسباب التي تعيق القدرة على إدراك أن التغيير يجب أن يكون جماعيًا وليس فرديًا.
فهل نحن بحاجة إلى “مخلّص”؟ أم أننا بحاجة إلى “مخلّصين”؟