سياسة

أفريقيا والمقاومة الفلسطينية عهدٌ لا ينكسر: حتى يُنقر في الناقور!

فبراير 5, 2025

أفريقيا والمقاومة الفلسطينية عهدٌ لا ينكسر: حتى يُنقر في الناقور!

في أحدث تصعيدٍ سياسي، اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حكومة جنوب أفريقيا باتباع سياساتٍ عدوانيةٍ تجاه الملكية الخاصة، على خلفية قانونٍ جديد يسمح بمصادرة الأراضي دون تعويض، وهو ما دفعه إلى إيقاف كل أشكال التمويل للبلاد خلال فترة الاستفسار.


القانون، الذي وقّعه الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا في يناير/كانون الثاني، يمنح الحكومة الحق في الاستحواذ على أراضٍ خاصة بموجب ظروفٍ محددة، ووفقًا لمبدأ “المصلحة العامة”، في خطوةٍ تهدف إلى تصحيح إرث التفاوتات العرقية التي خلفها نظام الفصل العنصري.


إلا أن هذا القرار لم يرق لواشنطن، حيث اعتبر ترامب أن هذه السياسات تعكس نهجًا معاديًا لحقوق الملكية ومناهضًا لحقوق الإنسان، ما دفعه إلى اتخاذ موقفٍ عقابيٍ مباشرٍ عبر تجميد الدعم المالي الموجه إلى جنوب أفريقيا. هذا التوتر يضاف إلى سلسلةٍ من الخلافات بين الجانبين، خصوصًا في ظل تقارب بريتوريا مع روسيا والصين في مجموعة بريكس، وهو ما تعتبره إدارة ترامب خروجًا عن الخط الاستراتيجي الذي تريده واشنطن لحلفائها في القارة.


وفي ردٍّ مباشر على قرار الرئيس ترامب تجميد جميع المساعدات المقدمة لجنوب أفريقيا، أكد الرئيس سيريل رامافوزا أن بلاده لا تعتمد فعليًا على التمويل الأمريكي، باستثناء برنامج مكافحة الإيدز الذي يغطي 17% من استجابتها الصحية، ومقدرة فقط بـ 400 مليون دولار.

وأضاف رامافوزا في نبرةٍ لا تخلو من التحدي: “لا تتلقى جنوب أفريقيا أي تمويل آخر من الولايات المتحدة.” رسالةٌ واضحة إلى واشنطن بأن بلاده لن تركع تحت تهديد العقوبات المالية.


جنوب أفريقيا تدفع ثمن مواقفها: من غزة إلى بريكس، العقوبات الأمريكية سيفٌ مسلط

لا يخفى على أحد أن جنوب أفريقيا اليوم تدفع ثمن جرأتها في رفع دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بسبب جرائمها في غزة، وتقاربها الاستراتيجي مع مجموعة بريكس، التي تعد الصين عمودها الفقري. في نظر واشنطن، هذه التحركات تستوجب العقاب، كيف لدولة أفريقية أن تتجرأ لتحاسب إسرائيل.


لكن خلف المشهد، هناك يدٌ خفية تحرّك الهجوم الأمريكي: شخصية ترامب الجديدة إيلون ماسك، الذي تحوّل إلى رمزٍ لليمين العنصري في الولايات المتحدة، وهو الذي ينحدر من جنوب أفريقيا ذاتها، البلد الذي كان مسرحًا لفظائع نظام الفصل العنصري الذي استفادت منه عائلته. فثروات أسلاف ماسك، مثل الكثير من المستوطنين البيض في جنوب أفريقيا، لم تأتِ من اجتهاد شخصي، بل من نهب موارد جنوب أفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية. حاول ماسك ذات مرة، التبجح بأنّه صنع ثروته من الصفر، وأنه عانى في صباه، ليؤكد لنا والده أنّ ماسك كان يذهب إلى المدرسة في سيارة ” رولز رويس”، وأمّ ماسك التي هي أساس ثروة ماسك اليوم، حيث كانت المموّل الرئيس لمشاريع ماسك في بداياته، لأنّها كانت مديرة بنوك، وهو امتياز حصل عليها كأقلية بيضاء في جنوب أفريقيا.

نقطة أخرى، وهي أنّ الهجمات الأمريكية، سواء عبر تغريدات ترامب أو تحركات نشطائه، جاءت متزامنة مع زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، ويردد العديدون أنها نتيجة همساتٌ خلف الأبواب بين اليمين المتطرف الإسرائيلي بقيادة نتنياهو واليمين الشعبوي في أمريكا، ما يفسّر الحملة ضد جنوب أفريقيا بقيادة ترامب وحلفائه، وعلى رأسهم ماسك.


لكن وسط هذا الجدل، تبقى الحقيقة الصادمة قائمة: 72% من الأراضي الفردية في جنوب أفريقيا لا تزال في يد البيض (البوير)، رغم أنهم يشكّلون أقلية سكانية، بينما لا يمتلك المواطنون الأفارقة، الذين يشكلون 80% من السكان، سوى 4% من الأراضي!، وفقًا لتقرير تدقيق الأراضي في جنوب أفريقيا لعام 2017. وهي ليست أراضٍ حصل عليها المستوطنون البيض عبر معاملات شرعية أو شراء قانوني، بل عبر الامتيازات الاستعمارية والإرث العنصري الذي مكّنهم من الاستحواذ على أفضل الأراضي الزراعية والاستثمارية في البلاد، بينما تُرك المواطنون الأفارقة بلا أراضٍ تكفي للاستثمار أو حتى الزراعة. لذلك يدرك كل مراقبٍ ملم، أن المعركة ضد جنوب أفريقيا هي عقوبة سياسية لمحاكمتها إسرائيل، وفيها أيضًا جزء من محاولة لحماية الامتيازات البيضاء القديمة التي بدأت تهتزّ تحت أقدام التاريخ.


وبالتزامن مع زيارة نتنياهو لواشنطن، تجدر الإشارة أن خبرًا آخر ذا صلة صعق اليمين الإسرائيلي المتطرف. ففي سابقة لم يشهدها التاريخ الحديث، تشكل تحالف دولي من تسع دول، أعلن موقفًا موحدًا لمواجهة إسرائيل سياسيًا وقانونيًا، محمّلًا إياها المسؤولية عن انتهاكاتها المستمرة بحق الفلسطينيين، ومطالبًا بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.


الدول التي انضمت إلى هذا الحراك غير المسبوق تمثل خليطًا من القوى الإقليمية الفاعلة والمناهضة للإمبريالية، حيث يضم التحالف كلًّا من: جنوب أفريقيا، ماليزيا، كولومبيا، بوليفيا، كوبا، هندوراس، ناميبيا، السنغال، وجزر بليز.

يأتي هذا التحرك في سياق متصاعد من الإدانات الدولية، خصوصًا بعد المجازر الأخيرة التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، وما تلاها من دعوى قانونية رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين. وبهذا التحالف، تتحول المواجهة القانونية والدبلوماسية مع إسرائيل إلى جبهة متعددة الأطراف، بعدما كانت تقتصر في السابق على دول منفردة.

فالمعركة الآن ليست فقط في ميادين القتال، بل في المحاكم والهيئات الأممية، حيث يبدو أن الرواية الإسرائيلية، التي لطالما اعتمدت على دعم الولايات المتحدة وأوروبا، بدأت تفقد تأثيرها أمام تنامي الأصوات المناهضة لها من الجنوب العالمي.


لأفريقيا، فلسطين هي من البحر إلى النهر.. حتى يُنقر في الناقور

لم يكن دعم القوى الحية في إفريقيا، وعلى رأسها جنوب إفريقيا، للمقاومة الفلسطينية مجرد موقف سياسي منتفض أو تحالف ظرفي تمليه المصالح، بل هو امتداد طبيعي لمسار طويل من النضال المشترك ضد الاستعمار والاستيطان. إن هذا الدعم ينبع من تجربة تحررية متشابهة، وذاكرة استعمارية مؤلمة، ووعي نقدي للإمبريالية الحديثة. وللوقوف على جذور هذا الموقف الأفريقي، لا بد من قراءة معمقة للتاريخ المشترك، والدوافع الأيديولوجية، والسياقات الجيوسياسية المعاصرة، من عدة حيثيات أساسية.


-إرث الاستعمار وتجربة النضال المشترك

عانت إفريقيا، مثل فلسطين، من عقود طويلة من الاحتلال، والنهب الممنهج، والاستيطان الاستعماري. في جنوب إفريقيا، كما في فلسطين، لم يكن الاحتلال مجرد سيطرة عسكرية، بل مشروعًا استيطانيًا يقوم على الإقصاء العرقي والتمييز العنصري. وقد لعبت إسرائيل دورًا محوريًا في دعم نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث قدمت له مساعدات عسكرية وتقنية، ما جعل الأوساط السياسية والمجتمعية هناك ترى في القضية الفلسطينية امتدادًا لصراعها الخاص. فمن وجهة نظر قادة مثل نيلسون مانديلا، لم تكن فلسطين سوى جنوب إفريقيا أخرى، ولم يكن النضال الفلسطيني سوى صورة موازية لمعركة السود ضد نظام الفصل العنصري.


  • الإرث التحرري والموقف القومي من الاستعمار

إضافيًا، لم يكن دعم القضية الفلسطينية مقتصرًا على الحكومات الأفريقية الحالية، بل كان حاضرًا في خطابات وأفعال قادة النضال ضد الاستعمار، مثل روبرت موغابي، وتوماس سانكارا، وباتريس لومومبا. هؤلاء القادة لم يروا في القضية الفلسطينية مجرد نزاع سياسي، بل اعتبروها جزءًا من معركة تحررية عالمية ضد الإمبريالية. الحركات الثورية الأفريقية، وخاصة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC)، تبنّت خطابًا أمميًا داعمًا لكل حركات التحرر، من فلسطين إلى نيكاراغوا وكوبا، واعتبرت أن استقلالها لا يكتمل إلا بتحرر كل الشعوب المضطهدة.


-التمايز عن الغرب ورفض الخطاب المزدوج

أدركت إفريقيا، بعد عقود من الاستعمار والتدخلات الخارجية، ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع قضايا الاحتلال. ففي حين دعمت القوى العالمية إنهاء الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، نراها اليوم تحت القيادة الغربية، تمنح إسرائيل كل أشكال الغطاء السياسي والعسكري لممارسة الاستيطان ذاته ضد الفلسطينيين. هذا النفاق السياسي دفع القوى الأفريقية الحية إلى اتخاذ مواقف مستقلة لا تنطلق من حسابات القوى العظمى، بل من قراءتها الخاصة للعدالة الدولية.

ومع صعود قوى دولية جديدة مثل الصين وروسيا، تسعى إفريقيا إلى التحرر من الهيمنة الغربية، والانخراط في تحالفات أكثر توازنًا. في هذا السياق، يصبح دعم القضية الفلسطينية جزءًا من إعادة التموضع الاستراتيجي للقارة على الساحة الدولية. فمع تصاعد خطاب عالمي جديد يعيد الاعتبار لحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وجدت القوى الأفريقية في القضية الفلسطينية فرصة لتعزيز حضورها كقوة سياسية مستقلة تتبنى نهجًا قائمًا على التضامن الأممي، بعيدًا عن الإملاءات الغربية.


ختامًا، ما لا يدركه اليمين الإسرائيلي واليمين الغربي الشعبوي المتطرف، أن ازدراءه المتواصل لشعوب الجنوب العالمي، وتعاليه على حقوقها، لن يؤدي إلا إلى توحيد صفوفها. فكلما زاد استهتاره بحقوقها، وتجاهله لمطالبها العادلة، تضاعف التلاحم بين هذه الشعوب، وسقطت أوهامه عن إمكانية إخضاعها. وما يسعى إليه دونالد ترامب ويمينه الجديد، المتمثل في إيلون ماسك، من محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بثني أهالي جنوب أفريقيا من استعادة أراضيهم، أو المساعي الحديثة بنهب فلسطين من غزة والضفة، هو استمرار لمسار الهيمنة الذي لم يعد يجد له موطئ قدم في عالم اليوم. فالتاريخ علّم المضطهدين درسًا واحدًا: عندما يتكالب الطغاة، لا يكون أمام الشعوب سوى أن تشد أزرها ببعضها البعض. وأي محاولة أمريكية، بغطاء إسرائيلي وبدفع من وريث الفصل العنصري، إيلون ماسك، لتكميم الأفواه التي تفضح الاحتلال، لن تُفهم إلا على أنها تنمّر جديد، ولن يواجه سوى بإصرار أشد على كشف الحقيقة.


ففي المحصلة، إن الموقف الإفريقي الداعم للمقاومة الفلسطينية لن يكون مجرد موقف سياسي زائل، هو امتداد لوعي جمعي يرفض الاستعمار والاستيطان بأشكالهما كافة. وهذه الروابط التاريخية والسياسية تجعل من إفريقيا اليوم شريكًا أساسيًا في معركة الفلسطينيين ضد الاحتلال، وهي معركة تتجاوز الحدود الجغرافية، لتكون جزءًا من نضال عالمي ضد الإمبريالية والتمييز العنصري.

كان وزير خارجية إسرائيل، إيلي كوهين، هو الذي تساءل بمرارة في زيارته لجمهورية غانا عام 2023: قائلاً “مع تعاوننا المثمر مع دول أفريقية عديدة، لا نفهم لماذا لا تزال القوى الأفريقية الحية تدعم الإرهاب – قاصدًا بذلك حركة حماس – ضد إسرائيل. حتى متى سيستمر هذا الدعم، لا ندري، لكننا سنعمل على تغييره واحدًا تلو الآخر”.


نُجيب هنا على كوهين، بالقول إنه قد فاته أن الشعوب الأفريقية ليست مجرد ورقة على طاولة الدبلوماسية الإسرائيلية، تُطوى متى شاؤوا، وتُفتح متى احتاجوا. الرد الذي لم يستوعبه كوهين، تلخصه حكمة عربية قديمة حين يود العرب الحديث عن شيء أزلي لا يتغير: نحن القوى الحية في أفريقيا، سنظل ندعم المقاومة الفلسطينية، ونقف معها، “حتى يُنقر في الناقور، أو يلد البغل العاقور”.

شارك

مقالات ذات صلة