حين تهدأ العاصفة، ويتكشف المشهد على حقيقته، تنفضح المواقف، وتسقط الأقنعة، فلا يبقى في الساحة إلا من كان له قدم صدق في المعركة، أو من بقي يراقب المشهد من بعيد، ينتظر أي الكفتين ترجح ليحجز له مكانًا في صف المنتصرين. أما أولئك الذين اجتهدوا في تثبيط العزائم، وتخذيل القلوب، وإشاعة الوهن في الأمة، فقد أفاقوا على وقع الحقيقة الصادمة، واكتشفوا أن معاولهم لم تهدم إلا ما تبقى من مصداقيتهم، وأن ما كانوا يروجون له من أوهام تهاوى تحت أقدام الواقع كبيت من رمال.
لقد كانت المرحلة اختبارًا لموازين القوة، لا على مستوى الميدان فقط، بل على مستوى القناعات والأفكار والمواقف. فمنذ اللحظة الأولى، علت أصوات المشككين، الذين زعموا أن لا طائل من المقاومة، وأنها ليست إلا مغامرة غير محسوبة، لكن الأيام جاءت برد واضح لا يقبل التأويل، فكانت المقاومة هي الميزان الذي رجحت به كفة العزة، وكانت إرادة الصمود هي السلاح الذي كسر معادلات القوة التقليدية.
لقد راهن البعض على أن معركة الإرادات تُحسم بغير العزيمة، فكانوا ينادون بالركون إلى انتظار الحلول القادمة من خارج الميدان، لكن ما إن احتدمت المواجهة، حتى تبين أن منطق القوة يفرض نفسه، وأن الحقوق لا تُوهب، بل تُنتزع بجهد المخلصين وتضحيات الشرفاء.
ولعل المفارقة الكبرى كانت في مواقف أولئك الذين وقفوا على الحياد، أو زادوا على ذلك بأن جعلوا من أنفسهم أدوات تبرير للضعف والهزيمة، فراحوا يبررون التقاعس، ويلقون باللوم على من وقف في وجه الظلم، وكأن القضية لم تعد قضية عدوان وغصب، بل مجرد سوء تقدير للحسابات. هؤلاء وجدوا أنفسهم في النهاية أمام واقع لم يكن في حسبانهم، حين ثبتت قدم الصمود، وتراجعت رهانات الانهيار، فأصبح خطابهم متهافتًا، لا يجد من يستمع إليه إلا من كان يبحث عن تبرير لموقفه المسبق.
ومن الأمور التي لا تخطئها العين، أن هذه المواجهة لم تكن مجرد اختبار للقوة العسكرية، بل كانت امتحانًا للأخلاق والمبادئ. فقد انكشفت حقيقة الخطابات التي كانت تتحدث عن أولويات أخرى، أو تروج لأفكار تضعف روح التضامن، وتقلل من شأن الالتفاف حول القضايا العادلة. وقد بات واضحًا أن بعض المواقف لم تكن وليدة اجتهادات فردية، بل كانت جزءًا من حالة أوسع، تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي العام، بحيث يُعاد تعريف العدل والحق والكرامة بمفاهيم جديدة لا تمت بصلة إلى ما تعارفت عليه الفطرة السليمة.
لكن الأيام أثبتت أن الضمير الحي لا يمكن أن يُخدع إلى الأبد، وأنه مهما حاول البعض أن يطمس معالم الطريق، فإن الحقيقة تجد سبيلها إلى الظهور، وإن تأخر الوقت. فمع كل جولة من جولات المواجهة، يعود الوعي ليأخذ مكانه، وتسقط الادعاءات التي لم تصمد أمام الوقائع، ويُعاد ترتيب الصفوف وفقًا لمعيار جديد، لا يخضع للضغوط ولا يتأثر بالأصوات العابرة.
أما أولئك الذين خذلوا، فإنهم يواجهون اليوم حسابًا من نوع آخر، ليس على ألسنة المقاومين، بل في نظرات الناس التي باتت تميز بين من وقف مع الحق، ومن حاول أن يزين الباطل، بين من حمل هم الأمة، ومن استغرق في تبرير العجز. فلم يعد بالإمكان أن يُعاد تدوير الخطاب القديم، ولم يعد ممكنًا أن تُقبل المواقف التي ثبت عقمها، فقد تكلمت الحقائق، ولم يعد للالتباس مكان.
وهكذا، بينما تنقضي جولة أخرى من جولات الصراع، تبقى دروسها حاضرة في الذاكرة، وتظل موازين الحق والخذلان واضحة لمن أراد أن يرى، ويبقى الثابت الوحيد أن العزيمة تصنع النصر، وأن أصحاب المبادئ لا تحرفهم الرياح، وأن الأمة، مهما أصابها من تعب، لا تزال قادرة على النهوض من جديد.