سياسة

هل السلطة غبيّة حقًا؟

فبراير 1, 2025

هل السلطة غبيّة حقًا؟

تابع الجميع بنقدٍ أو استهزاءٍ مشهد الزفّة البلدي التي مسرحتها الأجهزة الأمنيّة استجابةً لدعوة السيسي لـ “الاصطفاف”، على معبر رفح في سيناء، حيث شحنت مئات الحافلات آلاف الأنفار من كلّ بلدٍ ونجع ليهتفوا بحياة السيسي وسقوط ترامب، وطبعًا رفض التهجير.

عبثيّة المشهد ليست كلّ ما فيه، وابتذاله ليس خلاصته، والسلطة ليست-كما نتّهمها دومًا- غبيّة وجاهلة، وإن كانت لا تخلو من غباءٍ وجهلٍ قاتِلَيْن، إلا أن مشهد اليوم يستندُ على وجاهة أمنيّة صحيح لكنّ النظام يقومُ عليها منذ لحظته الأولى ألا وهي “تجنّب الاحتمالات”


ورغم أن نظريّته تلك فيها سقوطه -قريبًا كما آمل- إلا أنّها أقامته لعقدٍ وأكثر، وما زالت، كاتمًا أنفاسنا ومهينًا كرامتنا والوطن في كلّ اختبارٍ بغير استثناء، محقّقًا على ما يبدو ما أتى لتحقيقه: تدمير البلاد والتخلّص من أهلها، وتسليمها -تسليم مخبرين- للعدوّ أرضًا وعرضًا وقرارًا.

فتجنّب الاحتمالات جعله يختار الذاهبين للعرض بالنفر عشرة مناديب عن كل حزب، إضافة للكومبارسات وكذابي الزفّة، ناهيك عن الصادقين المخلصين الذين استجابوا للشحن دون إدراك حقيقته وما وراءه من ذوي الصفحات البيضاء الذين تفضّلهم الأجهزة التي تقرر وتمنع، ويستبقُ بطباعة الشعارات والصور التي يحملونها دون مساحة للارتجال ولو في ذات السياق المخلّق/المشوّه (لا أستبعد أنّ المطبوعات أنتجتها المتّحدة أو العلاقات العامة بالداخليّة)، وشحنهم في حافلات تتبع أجهزته الأمنيّة أو أصحابها.


والمكان كذلك هو رفح، المدخل المتوهّم للصفقة المشبوهة حسب السيناريو الطفولي كما يروّجه صبيان السلطة في نوافذها المكرورة، إذ سيشتدّ القصف ويندفع الناس إلى المعبر حتى يحطّموا الأسوار الخرسانيّة ويدخلون مصر أفواجًا، دون أن تمتلك القدرة على ردعهم أو إيقافهم.

ورفح كذلك هي كلّ شيء يناقض المدينة (مركزًا أو هامشًا)، فلا سكّان ولا ميادين ولا احتمال للاتساع أو خروج الحشد (المنتقي أمنيًّا بالنفر والكلمة والصورة) عن السياق المرسوم مسبقًا، لا جغرافيًّا ولا بشريًّا، ولا اتّصال به من أي جانب يمكن أن يكمله بما يعلم الكلّ أنّه مرادُ النّاس من أي اجتماعٍ لهم.


درس أكتوبر مازال حاضرًا في أذهان الجميع، الشارع ينتظر الناس لينفجر بهم في وجه السلطة، وهذا حصادُ فعلها الخبيث طيلة العقد الفائت و” ليس بعد حرقِ الزرع جيرة” وقد حرقوا زرع الناس وأعمارهم وهدموا البيوت والقبور والوطن، ولا ينتظر عاقل أو نصف مجنونٍ إلا الانفجار (الذي يخيفني قدومه دون وعيٍ أو استعدادٍ أو إدراك قبله، ودروس التاريخ تعلّمنا أنّه على هذه الصورة يعيد إنتاج ذات النظام الساقط بوجهٍ أشدّ توحّشًا).


إذًا: سَفَه السلطة رغم ثبوته بالدليل القاطع، ليس نتاج غباءٍ محض، بل مازالت تّسيّره وجاهة (أمنيّة مؤقّتة ومخادعة) لكنّه يدرك معنى أن يفتح مغاليق الحياة التي سحقها في السنوات الفائتة، وأنّ في هذا حتفه لا محالة، وهو ما يجعله يعيد الجري في المكان كعادته البلهاء، ظنًّا منه أن العالم زنزانة إنفراديّة في معتقل العزولي لا يعرف أحدٌ عمّا يجري فيه شيئًا، وأن العالم ذاته لا يعرف الفارق بين الحركات الشعبيّة وبين الزفّة الرسميّة المخلّقة في جهاز سيادي ما.

شارك

مقالات ذات صلة