دائما ما يُفرق الفلسطيني والإسرائيلي بين المخيم والمدينة، فالمخيم في عرف الفلسطيني يعني الرفض؛ رفض الواقع ورفض ما أوصل أهله إلى هذا المكان. بينما المخيم في عرف الإسرائيلي يعني العدو الذي لا يملك شيئًا يخشى عليه. وعندما يُذكر لفظ المخيم يقفز إلى الذهن مباشرة مخيم جنين، الذي نال شهرة أكبر من مدينته بحكم إرثه وجغرافيته وتاريخه الطويل.
محطة انتظار لحين العودة
تبدأ حالة الرفض في مخيم جنين من بوابته، التي كُتب عليها بخط عريض: “محطة انتظار لحين العودة”، وهي عبارة تبرر كل ما يمثله المخيم في المخيال الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء، فالعيش هنا مؤقت لأهله، ويسعون بشكل عملي لتقليل فترة الانتظار والعودة من حيث أتوا. تعي إسرائيل نفسية سكان المخيم وباقي المخيمات، فتركز عليهم وتجعلهم على رأس أهدافها، ومع كل اجتياح في الضفة غالبًا ما يُستهدف المخيم/ والمخيمات.
عش الدبابير
يقول مقاوم في مخيم جنين لرفيقه: احكي لي نكتة لأضحك قبل استشهادي
استغرب صاحبه وقال: لماذا تريد أن تضحك وأنت على حافة الموت؟
أجابه: لأنني أحب الحياة، أود أن أودعها ضاحكًا.
على عكس المتوقع فإن من نعت مخيم جنين بمصطلح “عش الدبابير” ليس فلسطينيًا من باب الفخر، بل يُعتقد أنه كان رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي شاؤول موفاز، بعد معركة المخيم الشهيرة عام ٢٠٠٢، التي تُعتبر أبرز محطات الانتفاضة الثانية.
ورغم أن مساحة المخيم أقل من نصف كيلو متر مربع، إلا أن القتال حينها استمر قرابة أسبوعين، وفي تصرف نادر في الضفة الغربية، ورغم أن المسلحين في المخيم لم يكن معهم سوى بنادقهم الخفيفة، استخدم جيش الاحتلال كل ترسانته العسكرية لإلقاء الحِمم على المخيم، بدءًا من طائرات الأباتشي، وصولاً إلى المدرعات والدبابات.
وبسبب ضراوة المعارك، وهربًا من الكمائن، لجأ جنود الاحتلال إلى التحرك من منزل إلى منزل عبر هدم الحوائط الداخلية بين البيوت المتلاصقة، فهدمت الدبابات بيوت المخيم بيتًا بيتًا. وبعد نهاية المعركة أحصى الاحتلال ٢٣ ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا قتيلًا وعشرات الجرحى بينهم، رغم هدمهم لأكثر من ٤٠٠ منزل في المخيم بشكل دائم، واستخدامهم ما يُعرف بتكتيك “الأرض المحروقة” لتسهيل التقدم بأقل الخسائر.
أثارت المعركة ردود فعل واسعة بعد ما أبداه المقاتلون الفلسطينيون من تخطيط مُحكم وحنكة في قتال الشوارع، ما رسم هالة حول المخيم لاحقًا ظهرت تسمياتها في مصطلحات جديدة مثل “عش الدبابير” وغيرها. وطبقًا لمراقبين، تدخل جيش الاحتلال في عمليات إعادة إعمار المخيم، وعمد إلى توسعة الطرق، ومحاولة فصل المربعات السكنية عن بعضها بعضًا بما يكفي لتسهيل عمليات التوغل لاحقًا، وذلك عوضاً عن الشكل الأول الذي كان ميزة لصالح المقاومين الذين حوّلوا الحواري والأزقة الضيقة إلى كمائن قاتلة لجنود الاحتلال، بعد أن منعت تضاريس المخيم الجغرافية الدبابات والمدرعات من التقدم بسهولة، أو على الأقل أبطأتها بشكل ملحوظ.
وفي نهاية المعركة قالت إسرائيل إنها “اجتثت المخيم ومن فيه، وأغلقت الصفحة”.
مخيمات الضفة
لم تعدم إسرائيل وسيلة إلا وقامت بها من أجل إبقاء المخيم منكوبًا أعزل السلاح بشكل دائم، أرادت أن يكون مسح مخيم جنين من على الخارطة في معركة ٢٠٠٢ درسًا لباقي المخيمات، وقد كان درسًا بالفعل، ولكن في تكتيكات حرب العصابات والتخطيط، والاعتماد بشكل نوعي على العبوات الناسفة.
وصلت التجربة إلى مقاتلي الضفة، وتطورت وسائلهم بشكل ملحوظ، فظهرت مجموعات مسلحة في مخيمات طولكرم ونابلس وغيرها، وعادت جنين لسابق عهدها، بل وأقوى مما قبل معركة ٢٠٠٢، وذلك وفقاً للإسرائيليين أنفسهم.
عشب جنين ينبت بسرعة
تطلق إسرائيل على عملياتها في الضفة الغربية مصطلح “تقليم العشب”، وهي تعتمد في ذلك على اعتقال المقاومين ونزع سلاحهم أولًا بأول، بمشاركة السلطة الفلسطينية. ولكن في إطار حربها الحالية على الفلسطينيين، تحدث محللون إسرائيليون أن الحل الآن لم يعد في “تقليم العشب” وإنما في اجتثاثه بشكل دائم، لأن العشب في الضفة ينبت بسرعة، ولأن المخيم/ المخيمات لم ينجب إلا الرافضين. وهذا يعيد إلى الأذهان حرب الثنائيات الجذرية التي لا تستطيع أن تجتمع في آنٍ واحد، مثل ثنائية الفلسطيني والإسرائيلي، وداخليًا ثنائية الرافضين في المخيمات، والسلطة التي تشترك مع الاحتلال في اعتقالهم أو قتلهم.
في خضم كل هذا، يخوض مخيم جنين حربه في محاولة ترسيخ ذاكرته، مخيمًا مؤقتًا في انتظار العودة كما كُتب على بوابته، ومن أجل العودة، يحارب المخيم الإسرائيليين، ويدافع عن نفسه أمام جنود السلطة.
يريد الذاكرة ويريدون له النسيان، وكما فعلها مقاتلو مخيم جباليا، سيفعلها مقاتلو مخيم جنين. فالتاريخ يقول في النهاية يبتسم المخيم ويعبس المحتل.