سياسة
إن الحكم على الأحداث التاريخية الفارقة لا يمكن أن يكون صحيحًا أو حتى موضوعيًا إذا انتزعت من سياقها، وفُصلت عن الواقع الذي جرت فيه والمعطيات المحيطة بها والبدائل التي كانت متاحة أمام أبطالها من كافة الأطراف. هذه القاعدة العامة، والتي تنطبق بدقة على معركة طوفان الأقصى، يتعمد تجاهلها بعض الراغبين في ترويج روايات أو استخلاص استنتاجات بعينها تعبر عن انحيازات وقناعات مسبقة لأصحابها ضد حق الشعب الفلسطيني، بل وواجبه، في الكفاح المسلح ضد الاحتلال.
وقد جاء يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ والقضية الفلسطينية تسير في طريق أريد له أن يصل بها إلى محطتها الأخيرة لتدخل ذمة التاريخ، بعد أن تُصفى نهائيا على طريقة المحتل، بدعم من حلفائه، وبصمت غالبًا، وتواطؤ أحيانًا، من أشقاء أصحاب الحق والأرض، وبسلبية ولا مبالاة من المجتمع الدولي.
فلسطينيًا وعلى مستوى السلطة؛ فقد استسلمت في السنوات الأخيرة – إلا من بعض المناورات والمناوشات – لنتائج مسار أوسلو ومدريد الذي دخلته قبل قرابة ثلاثة عقود ونصف على قاعدة اقتضتها طبيعة اللحظة والوسطاء في حينه، وهي: الأرض مقابل السلام، ليصل بها مسار التنازلات إلى قاعدة جديدة فرضها تمادي الاحتلال من جانب واعتياد الإذعان على الجانب المقابل وهي: كراسيكم مقابل السلام. وبما يلزمه ذلك من تنسيق أمني، وإدانة المقاومة، وإعفاء الكيان الصهيوني من فاتورة مسئولياته كسلطة احتلال عبر إدارة أرض ممزقة أوصالها في الضفة الغربية المحتلة، التي يقتطع منها الاستيطان كل يوم قضمة بينما يختمر فيها الغضب وتتراكم أسباب وعوامل انتفاضة جديدة، إذا ما اندلعت فإنها لن تكون كسابقاتها. وإلى الجوار قطاع غزة المحاصر من البر والبحر والجو، بينما يأبى أن يبقى سجنًا مفتوحًا لقرابة اثنين ونصف مليون إنسان، أو حتى أن يتخلف عن مواجهة الكيان المحتل والانتصار لقضايا وطنه والدفاع عن مقدساته والسعي لتحرير أسراه.
أما فريق المقاومة الفلسطينية؛ فكان يكتسب مع الوقت، وبالمعارك التي يدخلها ضد الاحتلال على فترات، مزيدًا من القوة والكفاءة، والمشروعية والحاضنة الشعبية، وقد جاء اليوم الذي صار فيه من بدء المقاومة طفلًا في يده حجر، رجلًا في يده قنبلة أو منصة إطلاق صواريخ، بات مداها يصل إلى عاصمة الكيان المحتل.
وعلى جانب الكيان الصهيوني؛ فبرغم كل أزماته وتناقضاته وصراعاته الداخلية التي كانت كفيلة بانهياره وتفككه الذاتي، فقط إذا ما واجه محيطًا صلبًا رافضًا لوجوده متمسكًا بزواله، فقد استمر في تعزيز مشروعه الدخيل، ومد جذوره في جوار عربي طالما نجح تاريخيًا في اقتلاع كيانات استعمارية استوطنت ذات الأرض مرات عدة، حتى اطمئن هذا الكيان إلى أن وجوده لم يعد مهددًا، بل إن الطريق إلى قيادة المنطقة أصبح ممهدًا.
وعربيًا؛ انتقلت عدوى التفريط في الثوابت المستقرة تجاه قضية الأمة المركزية إلى دول جديدة سرعان ما مارست التطبيع بكل اندفاع وابتذال وانبطاح. ومن الخليج العربي، إلى المغرب العربي، إلى جنوب الوطن العربي بدا أن التنافس على تقديم قرابين الولاء للولايات المتحدة الأمريكية من خلال ربيبتها (إسرائيل) قد فاق حتى أحلام الصهاينة وكوابيس الفلسطينيين، حتى أن أكثر تلك الأنظمة انحطاطًا لم يكفهم التعاون المخلص في فرض شرق أوسط جديد رُسم من قبل أعدائه، بل إنهم قد سمحوا أو أمروا بعض أذنابهم بالتبشير بالدين الإبراهيمي الجديد!
أما النظام العالمي، الذي ما تزال أمريكا تهيمن عليه وتتحكم في مؤسساته الدولية السياسية والاقتصادية، رغم المحاولات الجارية من أقطاب صاعدة لتغيير ذلك الواقع المؤقت وإن طال لبعض الوقت – والتي يقف العرب منها موقف المتفرج – فقد تراجع اهتمامه بقضية الصراع العربي الصهيوني، أو بالتسوية السلمية للقضية الفلسطينية كما يسميها. ولا يتذكرها إلا عند تفجر أزمة تنذر بمواجهة مفتوحة يمكن أن تغير القواعد التي استحدثت منذ التسليم الباطل والمتتالي.
في ظل هذا الواقع الداخلي والإقليمي والدولي؛ جاء ٧ أكتوبر ليكسر هذا المسار الخانع والمتهافت من السلطة الفلسطينية في الداخل، ومن غالبية النظم العربية في المحيط.
ولا يمكن تصور أن من خبروا العدو جيدًا في مواجهات عسكرية سابقة، وتعاملوا معه عن قرب كأسرى في سجونه، يمكن أن يغيب عنهم الاجتهاد في تقدير الاحتمالات وبناء السيناريوهات لما بعد ضربتهم الكبرى، وإن كنت أتوقع أن ما فاجأهم حقًا هو حجم الهوان والخذلان العربي الرسمي إلا من استثناءات محدودة ومن بعض الإسناد من جبهات أخرى في لبنان واليمن والعراق.
أما شلل النظام الدولي وبالأخص مجلس الأمن، أسير إرادة الدول الخمس دائمة العضوية وصاحبة الفيتو فقد كان منتظرًا، بينما لم يخلُ المشهد الدولي الرسمي من دعم كان معظمه معنويا ورمزيا، وقليل منه فعال وإيجابي، من دول لاتينية وأوروبية وآسيوية وأفريقية كان في مقدمتها جنوب أفريقيا التي أقامت دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها الاحتلال بارتكاب إبادة جماعية، وهي القضية التي يتوقع أن يستمر تداولها لسنوات، بينما لا يبدو أن هناك فرصة لفرض تدابير عاجلة تضمن دخول الغذاء والدواء وتوقف آلة القتل الجهنمي للمدنيين والتدمير لكل مظاهر الحياة، والتي لا تعبر فقط عن همجية ووحشية المحتل، وإنما كذلك عن يأسه من تحقيق أي من أهدافه التي أعلنها عند بدء الاجتياح البري لقطاع، صغير بمساحته الجغرافية، كبير جدًا بمقاومته الملهمة وسكانه العظماء المصرين على تغيير قواعد المعادلة المهزومة وفرض واقع جديد، وحدهم الأحرار يمكن أن يروا فجره يولد الآن من بين الدم والحطام، والصمود والاستشهاد، والأمل بالنصر.
يُتبع،،،