مدونات
للكاتبة: هبة حسن عوايضة
كعادتي، أحاول دائمًا أن أصف شعور كل مَن يعجز عن التعبير عمّا في قلبه. أحاول جاهدةً أن أصل إلى شعورهم الحقيقي، لكنني لا أقدر. هذه اللحظة التي ظننتها، وظنّ الجميع، أن قدومها مستحيل، وأنّ ذلك الطريق أصبح طريقًا للموت فقط. لم نكن نتخيل أن الطريق الذي مرّت منه قوافل الشهداء، الذين قضوا باحثين عن الطعام الذي حرمهم منه أراذل الأرض، قد صار طريقًا للقاء الأحبة. هذا الطريق الذي كان محرّمًا على أهله، قد صار اليوم مكانًا لانتظار عودة أهله.
اليوم، تطلب البلاد أهلها المتلهفين، فيجيبونها بأنّها الجنّة ولا جنّة سواها. اليوم، وبعد هذا البُعد القاتل، والغربة الموحشة، واللا حياة، يصل أهل غزة إليها حاملين معهم كل ما يملكون من شوق ودموع عالقة منذ أكثر من عام. اليوم هو يوم الدموع المؤجلة، الدموع التي لم يكن لديها متسع من الوقت لتسقط، قد سقطت اليوم شوقًا وحبًا في الأحضان وبين الأذرع. لأول مرة منذ عام وأكثر، لم يكن الخوف، والقصف، والقتل، والنزوح، والدمار، والجوع، والبرد، والقهر، أسبابًا للبكاء، بل كانت لحظة اللقاء.
منذ تلك اللحظة، لحظة السماح بالعودة، منذ لحظة العبور إلى الطريق المؤدي إلى غزة، وأنا أحاول أن أدرك الحقيقة. حقيقة النجاة التي كانت بالنسبة لنا حلمًا صعب المنال، لأنّ ما عشناه هنا لم يترك لنا سبيلاً للتفكير في شيء خارج إطار الموت. “النجاة” الآن هي نجاة الجسد، وليست نجاةً كاملة، ولكن كما علّمتني الحرب أن أقدّر نعم الله صغيرها قبل كبيرها، أشكره الآن على هذه النجاة الناقصة التي ستكتمل يومًا ما بإذن الله.
أغمضت عيناي واستنشقتُ هواءً حُرمت منه لأكثر من عام، هواءً اختلطت فيه رائحة الحب، والأمن، والخوف، والموت. ومع تلك النسمات، تنزل الدمعات متتاليات دون توقف. دموع القلب المشتاق! لم أكن أعرف أن شعورًا كالشوق يمكن أن يفعل كل هذا بالإنسان! أتدري غزة ما الذي فعلته بقلوبنا؟ لم يكن حبنا لها خيارًا عَرَضيًا، بل كان جزءًا منا، كوّن ذكرياتنا ولحظاتنا كلها، حتى اختُبر هذا الحب حين دمّروها، فوجدنا أنفسنا نحبها أكثر فأكثر، نشتاق لها أكثر، ونتلهف لإعمارها حجرًا حجرًا بأيدينا نحن الذين تركناها مرغمين، ولن نلدغ من جحر تركها مرتين.
عندما استطعت أن أفتح عيوني تدريجيًا، وجدتُ نورًا سُلب مني، ولم أستطع أن أنظر إليه مرة أخرى، وكأنّ عيناي اعتادتا على الظلام. حاولت مرة أخرى، وإذ بي أستطيع أن أفتح عيوني، لكن بخوف وترقب. أخاف من الحقيقة التي لطالما أخفيتها عن عقلي. أخاف من وقع الدمار الذي لم أصدقه، ولن أفعل. وَقَع نظري على السماء أولًا، أقصد الأمل الذي لم يُقتلع من صدري طوال أيام الحرب، لأنه أملٌ متعلق بحسن ظني بالله الذي لا يخلف وعده.
الآن، وبعد كل هذا الأمل المليء بالاستسلام والقليل من اليأس، ألتمس استجابة دعائي. لأول مرة تكون استجابة الدعاء غصة تحرق قلبي. لأول مرة أشعر بشعورين في نفس الوقت، الفرح والحزن الشديد! هذا الدعاء الذي دعوته وأيقنت باستجابته، رغم انعدام أسباب حصوله. أقف أمام البحر، كل الذكريات المتعلّقة به لا زالت متعلقة بعقلي أيضًا، رغم كل ما عاناه من قصص غير عادية، قصص تكاد تخلو من الواقعية، لكنها بطريقة أو بأخرى، حدثت هنا، في غزة.
هذا البحر الذي كنتُ آتيه وأخبره بحزني الذي كنت أعتقد أنه حزن، ولم أكن أعرف معناه الحقيقي إلا اليوم. كنت أزوره مع الصديقات والعائلة وأضحك كل الضحك، وكأنه مكانٌ مليء بالنكات. الآن أقف وحدي دونهن، دون ضحكة واحدة منهن، دون أسراري لهن، دون جمالهن، دون صورهن، دون احتوائهن لي بكل ما بي. أقف وأنا أنتظر صديقة قلبي الشهيدة، لكي أرمي كل ما أصابني في حضنها وأهدأ. كان هذا الدواء كلّما شعرتُ بالوهن والضعف. كان لقائي بها كل يوم، في مكاننا الذي دُمر أيضًا، يُغذّي القلب ويرمّمه، ويمدني بقوة أتجاوز بها الكثير. فأنا الآن ضعيفة بدون وجودها.
أفكر كيف ذهبت إلى الجنة ولم تأخذني معها. عادةً ما تصحبني معها أينما ذهبت، لكنها تركتني هذه المرة. لم يُكتب لي أن ألقاها بعد، ولم أعرف إن كنت قويةً لكي أرى قبرها وأدعو لها. أمسح دمعتي بضحكة هذه الذكرى الجميلة، وأقول: يا رب.
تلتقي الآن وجوه الرضّع بآبائهم الذين لم يروهم، وقلوب الزوجات بأزواجهن، والأصحاب والأقارب والجيران، كلٌّ يبحث عن الآخر. وتبقى الأم تبحث عن ولدها المفقود، والأرملة عن زوجها الشهيد، والأب عن قرّة عينه، والجدة عن روح روحها. يبحثون عنهم في عيون الأحياء، ولم يدركوا حقيقة فقدهم بعد. الآن تُعاد الجروح مرة أخرى، بألم أكبر، وصبر أكبر، فالله الله في قلوب الفاقدين المتعبين.