سياسة
غالبا ما تتغلب روائح الموت على أجود أنواع العطور وعادة ما يصبغ الدم القاني أزياء الحياة وتتعثر سنابل القمح تحت مداس المحتلين وتختبئ الطيور في أوكارها خوفا من ليل موحش، وفي زمن التيه البشري لم يعد الفراق حالة رومانسية خاصة بين عشيقين فحسب، بل حدثا جماعيا قاتما ونكبة شعوب هائمة على وجهها تفتقد الأرض والديار.
نعم في أوطاننا ثمة من يحرص دائما على إبادة الحقول والسطو على ذاكرة الشعوب، في أوطاننا مارد عاش منتصب القامة يصرون على إذلاله وحجبه وراء الشمس، في أوطاننا عدو طالما جثم على البشر والحجر واعتقد أن مجزرة هنا ومحو عائلات من السجلات هناك سيطمس الحقائق وسينجح الظلام بحجب أي قبس نوراني بين الأشجار والوديان والصخور، وستغادر الطفولة حكما أراجيح العمر ويرحل أهل الأرض إما على هيئة أرقام في مقابر احتشدت بالأقارب والأحبة أو إلى شتات يبحثون فيه عن اختفاء أو اختباء بعيد.
هي رهانات وسيناريوهات رسمتها إسرائيل على خارطة أطماعها وأحلامها التوسعية، واستشرست بحربها الأخيرة علها تنهي مشهدا, امتد لعقود فتقلب المعادلات وتغير الثابت وتنسف القائم والسائد. هذا ما ظنه نتنياهو وحاشيته وداعميه، لكن مشهد الساعات والأيام الأخيرة في لبنان قال كلمة أخرى وأطلق صفارة الانطلاق نحو الربوع الجنوبية مع انتهاء مهلة الستين يوما لتنفيذ اتفاق رعته دول اجتمعت ذات مرة، لم تعره إسرائيل أي اهتمام.
هم أهل الأرض وملحها إذا، تقدموا بأناقة الصدور العارية، ارتدوا ألوان حياة يستحقونها، تعطروا بمسك الفقد والحنين، توضؤوا عزما وإرادة وأقاموا صلاة الحب والانتماء المتجذر في التراب، رفعوا أذان العودة فلا يحك الجلد إلا الظفر، سلموا صباحا على الجنوب كما لو كان الكون بوسعه وملئ ساحاته، وألقوا التحية على دماء جبلت بشتلات النرجس فأينعت مزهوة يداعبها النسيم، برايات وقبضات مرفوعة امتشقوا العناد سلاحا بوجه غرباء تخفوا خلف متاريسهم وآلياتهم العسكرية يترقبون ويرصدون حركة من ظنوا أنهم خرجوا من هنا، وهم ما خرجوا إلا ليعودوا الى هنا.
كم عزيز هو شعب أراد الحياة واستجاب له القدر، يحدثون العالم من حولهم عن عودة جليلة وأرواح أنيقة بين تلال الركام، يطاردهم الرصاص فإذا بهم يطاردونه، يقتلعون السياج بأيديهم، يخترقون الحصون يتقدمون ويتقدمون واليقين أمامهم بأن الأرض لهم ولن يتنازلوا عن شبر منها.
صورة أزعجت دوائر القرار الإسرائيلية، كما تزعجهم غزة والضفة الغربية وتزعجهم أيضا شعلة النضال وجذوة المقاومة أينما كان، تستفزهم صينية حلوة في يد فتاة ورنين زغاريد النسوة ، تربكهم فرحة طفل عبر ووصل وجلس على أنقاض غرفته وألعابه، ترعبهم صورة شهيد بيد زوجته أو أمه، ومن اعتاد توزيع الموت والدمار اعتاد أيضا مصادرة الأحاسيس وتنغيص النصر وتشويه الملامح المشرقة للعائدين، فقتل واعتقل وأرهب الكبير والصغير على امتداد القرى الحدودية لكن دون جدوى بل شوهد المئات من الجنود المدججين بالسلاح بمواجهة من المسافة صفر مع الأهالي في مشهد تكفل وحده بقلب الطاولة على رؤوس من روجوا لهزيمة المقاومة وحاضنتها الشعبية في لبنان وبأن الاستسلام خيم على أجواء الجنوبيين بعد حرب شرسة امتدت لشهرين ونيف.
حفر الجنوبيون مشهدا اسطوريا جديدا، سطروا مواقف مشرفة، وقفوا كأشجار زيتون أصلها ثابت وهامتها في السماء بروح قتالية لم تزعزعها ضراوة الحرب بوجه جيش كامل ووضعوا الجميع أمام مسؤولياته وأمام استحقاق التحرير الذي آن أوانه على توقيت اتفاق أبرم ذات ليل وصفق له دعاة السيادة وسلطة الدولة ورعاة المجتمع الدولي والاتفاقات الدولية والوعود الأمريكية والغربية التي تغري ضعفهم وتفضح جبنهم في آن.
على المستوى السياسي قرأ كثيرون في الحدث فرصة أعطيت لحزب الله في جنوب لبنان كي يكرس مشهد انتصار لم يتحقق خلال ستين يوما من عمر المهلة المحددة للانسحاب وأسقط كل الكلام السياسي الداخلي عن انتهاء الحزب ودوره، كما اعتبرت المشاهد القادمة من الجنوب أشبه باستفتاء شعبي على خيار المقاومة وسلاحها في تحرير الأرض وحماية أهالي القرى بعدما تخلى عنهم المعنيين ممن صودر قرارهم السياسي في دوائر الخارج.
لم تفلح بعض التصريحات والمواقف السياسية في ترميم أو تجميل الواقع الرسمي المتهشم مع انتهاء المهلة وعدم اتخاذ أي إجراء على خط القرى المحتلة. فثبت أن الشعوب وحدها صاحبة الكلمة ووحدها قادرة على صناعة واقع مختلف، والحقيقة جذبت نحوها الأنظار فقط عندما تحركت القوافل تعانق رائحة التراب يحركها الوفاء لدماء الشهداء والأجساد المتحللة والأوصال المقطعة علها تعثر على ابن أو زوج أو حبيب ، عادوا وأجسادهم دروعهم يهزؤون بالغزاة ولسان حالهم هو الجنوب لنا ونحن حراس الأرض المقدسة و المعادلات تكتب بالدم وحده و الأجساد قد تسقط ربما لكن النفوس تفرض حقيقتها على الوجود برمته وتلك حكاية لم تولد بعد السابع من أكتوبر ولا في أي أكتوبر آخر بل هي بدأت منذ فجر الاحتلال ومنذ تلك اللحظة التي مات فيها ضمير العالم!.