مدونات
للكاتبة: باسمة حمزة
من بلد الحضارات وأول أبجدية في التاريخ، من البلد التي تضم أقدم عاصمة مأهولة في العالم … من دمشق بني أمية وفي صباح الثامن من ديسمبر 2024 صدح السوريون بتكبيرات النصر.. وأعلنوا كلمتهم “كلمة الحق والحرية”.. ولفظوا طغاة العصر.. وأثبتوا للبشرية جمعاء أنهم شعبٌ لا يرتضي إلا الكرامة والعز.
من جميع أنحاء سوريا التي تضم في جغرافيتها أعرق الحواضر بدءاً من حلب سيف الدولة إلى حماةَ أبي الفداء ثم إلى حمص خالد بن الوليد وصولاً إلى دمشق عاصمة الأمويين استعادت هذه الحواضر العريقة بتاريخها الأصيل بعد حقبة تجاوزت الخمسين عاماً من الظلم والاستبداد ونهب خيرات البلاد حريتها وتاريخها المسلوب وحضارتها.
ورغم أن التحرير واسقاط نظام الأسد كان الهدف الرئيسي والأول للثورة منذ ثلاثة عشر عاماً إلا أن هناك أهدافاً عظيمة تتجلى وراء هذا الهدف وعلى رأسها بناء اقتصاد قوي يُعيد لسوريا مكانتها على الخارطة الاقتصادية العالمية، ويوفر الفرص الحقيقية للشباب في جميع مجالات العمل، ويفتح أبواب الاستثمار للمُهجّرين، ويُبني مستقبلًا مشرقًا واعداً للأجيال القادمة.
الانهيار الحاد للاقتصاد السوري وأسبابه
يواجه الاقتصاد السوري تحديات كبيرة من أجل نهوضه بعد الانهيار الهائل الذي حدث له نتيجة عوامل عديدة أبرزها تداعيات الحرب، حيث شهدت مناطق واسعة من المحافظات السورية منذ عام 2011 تدميراً ممنهجاً من قبل قوات النظام البائد مما أدى لخسائر كبيرة تقدر بنحو 700 مليار دولار.
كان هذا التدمير بدوره كفيلاً لتعطيل عجلة الحياة في الكثير من النواحي والتي كانت السبب الرئيسي في انخفاض الناتج الإجمالي المحلي وفقدانه 90% من إنتاجه، كما أن للعقوبات الدولية والفساد وسوء الإدارة دور كبير في هذا الانهيار.
يتطلب التعافي من هذا الانهيار والخروج من هذه الأزمة الاقتصادية جهوداً كبيرة على مختلف الأصعدة، بما في ذلك تحقيق الاستقرار السياسي والأمني، وإعادة الإعمار، ومكافحة الفساد، وتنفيذ خطة إصلاحات اقتصادية شاملة.
وهنا يأتي السؤال على ماذا يعول الاقتصاد السوري في نهوضه؟ وهل اليد الخارجية (الغربية) الممدودة لإعادة إعمار سوريا ستكون المنقذ! وماهي الأسس التي يجب اعتمادها في وضع خطة مشروع إعادة الإعمار في سوريا لتتناسب مع ظروف البلد وموقعها الجغرافي؟
أهم العوامل المطروحة على أرض الواقع للنهوض باقتصاد سوريا
تعتبر قضية إعادة إعمار سوريا والنهوض بالاقتصاد السوري تحدياً كبيراً في ظل تكلفتها الهائلة والتي تصل لمئات المليارات من الدولارات، وبالطبع هذه التكلفة من المستحيل حالياً على الدولة الجديدة تحملها، لكن بالطبع هناك عوامل مطروحة على أرض الواقع يمكنها توفير مصادر تمويل تساهم بشكلٍ فعال في نهوض اقتصاد سوريا وإعادة الإعمار ومن أهمها:
1- استثمار الموارد السورية
قد يبالغ البعض في قولهم بامتلاك سوريا موارد اقتصادية ضخمة وثروات طبيعية هائلة، نعم تمتلك سوريا موارد اقتصادية وطبيعية فعالة لكن ليس بالحجم الضخم الذي يروج له البعض، لكن يكمن سر ضخامة حجم الموارد في سوريا بالتنوع الكبير لهذه الموارد مثل الموارد الطبيعية (النفط والغاز والفوسفات) بالإضافة للقطاع الزراعي والسياحي والتجاري، وفي حال تم استثمار جميع هذه الموارد بشكل مُجتمِع وبطرق مدروسة ومنسقة حتماً سيحقق الاقتصاد هدفه في الوصول للتنمية الشاملة المطلوبة.
2- مصادر التمويل الوطنية
والتي تشمل استثمارات المغتربين السوريين في الخارج بالإضافة لتحويلاتهم النقدية، كما تشمل مصادر التمويل الوطنية الأرصدة المجمدة في البنوك الدولية كل هذه المصادر يمكنها إعادة رؤوس الأموال الوطنية من الخارج وتوفير مبالغ تساهم في إعادة الإعمار.
كما تعتبر الخبرات البشرية والكفاءات السورية التي أثبتت مكانتها في دول اللجوء خلال فترة الثورة وحتى قبلها ثروة كبيرة للاقتصاد السوري وتعزز من قوة مصادر التمويل الوطني.
3- اقتصاد السوق الاجتماعي
يعتبر مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي منهجاً حديثاً يمنح الأفراد وشركات القطاع الخاص الحرية المالية كما يمنح الحياة الاقتصادية التوازن في المستوى المعيشي لطبقة الفقراء بسبب الضمانات التي يحققها للعاملين في القطاع الخاص، والعديد من الدول المتقدمة مثل ألمانيا تطبق نظام السوق الاجتماعي والذي كان فعالا في إعادة الإعمار بسبب تشجيع مشاركة القطاع الخاص واستثمارات المغتربين ودعم اجتماعي للفقراء وفئات العمال مما يحقق مصالح الحكومة وجميع فئات المجتمع، لذلك يعتبر الاعتماد على هذا النظام الاقتصادي في سوريا هو الأنسب لظروفها لأنه يمنح جميع الأفراد والقطاعات المشاركة في إعادة الإعمار بشرط تطبيقه بشكل صحيح وفعال.
4- الاستثمار الأجنبي والمشاريع الاستراتيجية الدولية
بالنظر إلى سوريا فإنها تمتلك موقعاً استراتيجياً هاماً يشكّل معبراً يربط آسيا بأوروبا حيث تمتلك ممرات تجارية حيوية لها أهميتها في حركة سلاسل التوريد، وهذا ما يفتح المجال أمام سوريا للاستفادة من هذا التنافس الجيواقتصادي لجذب المشاريع الاستراتيجية كالتي تُطرح حالياً مثل “إحياء مشروع خط أنابيب الغاز القطري لأوروبا” والمبادرة الصينية “الحزام والطريق” التي ستجعل من سوريا محطة عبور مهمة، هذه المشاريع وغيرها بالإضافة للاستثمارات الخارجية وصناديق التنمية والمنح المقدمة من الدول الصديقة يمكنها أن تساهم وبشكل كبير في دعم البنية التحتية لسوريا وإعادة الإعمار.
5- رفع العقوبات الدولية
تسببت سياسة النظام السوري البائد بعزل سوريا عن العالم العربي والغربي، حيث تعاني الأسواق السورية من نقص حاد في السلع والمواد الخام والسبب الرئيسي هو العقوبات الدولية التي فُرضت على الاقتصاد السوري في جميع النواحي والتي تسببت في إغلاق المعابر الحدودية واستهداف القطاع النفطي وحظره، بالإضافة لهجرة رؤوس الأموال مما تسبب في ارتفاع معدلات البطالة والفقر التي وصلت حتى 95% لتصبح سوريا البلد الأسوأ في العالم وشعبها من أفقر الشعوب، وعملية البدء برفع العقوبات عن سوريا هو مطلب عاجل وضروري لتحسين المستوى الاقتصادي وبدأ الإنتاج وإعادة الإعمار.
هل المساعدات الدولية هي المنقذ في إعادة إعمار سوريا؟
قد يكون الظاهر من المساعدات الدولية وخصوصا الغربية هو مد يد العون والمنقذ للدول المنهكة التي تحاول جمع شتاتها بعد معاناة طويلة مع الحرب، لكن في نفس الوقت قد تكون هذه المساعدات حبلاً خفياً يمتد حول عنق هذه الدول أساسه الاحتياج والاعتمادية على الدول المساعدة لضمان السيطرة الدائمة عليها حيث لا يخفى على أحد أن إغراق الدول الفقيرة والمحتاجة بالمساعدات غالباً ما يكون وسيلة لترويضها من خلال اغراقها بالمنتجات الأجنبية والذي يؤدي بدوره لتدمير الصناعات المحلية والاقتصاد الوطني لتبقى الدول الفقيرة مرتهنة للدول الغنية ومساعداتها، لذلك لابد من تقليص المساعدات الدولية قدر الإمكان ودعم الصناعات المحلية والناتج الوطني للوصول أولاً للاكتفاء الذاتي ومن ثم للتصدير الخارجي.
هل يجب تطبيق التجارب الدولية في إعادة إعمار سوريا؟
هناك نماذج لتجارب دولية عديدة في إعادة الإعمار مثل “النموذج الصيني” و”خطة مارشال في إعادة إعمار ألمانيا” بعد الحرب العالمية الثانية، لقد حققت هذه التجارب نتائج اقتصادية ناجحة وبفترات قياسية، لذلك يتوجب علينا وبسبب الوضع الراهن لسوريا الاهتمام بهذه التجارب ودراستها وتحليلها والاستفادة منها دون العمل طبعاً على استنساخها فكل دولة لها ظروفها وخصوصيتها التي تتميز بها عن غيرها، وسبب دراسة هذه النماذج هو الاستفادة من هذه التجارب الناجحة لتعزيز فرص نجاح مشروع إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد السوري.
ماهي المدة التي يحتاجها الاقتصاد السوري للتعافي؟
البناء وإعادة الإعمار وتشييد البنية التحتية وتعافي الاقتصاد هي مشروع استراتيجي ضخم يشمل إعادة بناء دولة من كافة النواحي، وهي عملية لا تتم بالأحلام والأمنيات بل تتم وفقا لإعداد خطط علمية مدروسة تتضمن الدراسة والتحليل والتنفيذ بخطوات دقيقة وعملية مع الاستفادة من تجارب إعادة إعمار دول أخرى.
إن إعادة الإعمار ومرحلة التعافي لا تتم بين ليلة وضحاها بل تحتاج للوقت ولعوامل مؤثرة أبرزها الاستقرار الأمني والاجتماعي والاعتراف الدولي والعلاقات الدبلوماسية وحجم الاستثمار الخارجي والجهد المبذول من الحكومة ومن الشعب السوري جنباً إلى جنب لتبدأ المؤشرات الاقتصادية بالتحسن تدريجياً والتعافي والنهوض بسوريا الجديدة في المستقبل القريب.
رغم أن التحرير واسقاط نظام الأسد كان الهدف الرئيسي والأول للثورة منذ ثلاثة عشر عاماً إلا أن هناك أهدافاً عظيمة تتجلى وراء هذا الهدف وعلى رأسها بناء اقتصاد قوي يُعيد لسوريا مكانتها على الخارطة الاقتصادية العالمية، ويوفر الفرص الحقيقية للشباب في جميع مجالات العمل، ويفتح أبواب الاستثمار للمُهجّرين، ويُبني مستقبلًا مشرقًا واعداً للأجيال القادمة.