آراء

يا أبا إبراهيم.. قد صدّقت الرؤيا!

يناير 26, 2025

يا أبا إبراهيم.. قد صدّقت الرؤيا!

في طليعة قومه، وفي مقدمة جيشه، وعلى رأس جنوده، ومن قلب الميدان المشتعل بالحرب الضروس، يسير الهوينى، متنقلا على مهل، من جبهة إلى جبهة، يسيّر المعركة، ويشحذ الهمم، ويضع رقبته هو تحت سكين الشهادة، وفي يده عصاه الخالدة، وإن اختلفت خاماتها من يوم إلى آخر، وإن تعددت أغراضها من موضع إلى موضع، فإن العبرة بصاحبها، الذي يجعل لها معنى، ويضيف إليها مفاهيم أخرى في معاجم اللغة، فأكسبها القيمة والثمن حين اقتناها، ثم أكسبها ما لا يقدر بثمن حين رماها؛ لتحضرني في حضرته أبيات الشافعي: 

 

والتِّبر كالتُّرب ملقى في أماكنه.. والعودُ في أرضهِ نوعٌ من الحطبَ

فإن تغربَ هذا عزَّ مطلبُه.. وإن تغرَّب ذاك عزَّ كالذهبِ


فهاهو أبو إبراهيم يحيى سيد سادات العرب وخيرة أهلها المعاصرين، ووريث عصا موسى ودرة ابن الخطاب، يجعل من الحطبِ عودًا، أطيب من العود، وأكثر فواحًا وانتشارا، وأطيب أثرا وأبعد اندثارا، وقد رأى فيما يرى المجاهدُ القائم، أن يأتي الله على أيديه وصحبه بطوفانٍ هادر يغيّر وجه الدنيا، وهاهي الدنيا يتغيّر وجهها من بعده، وصحيحٌ أن تشوهت ملامح غزة، ولم يعد فيها حجر على حجر، ولا بشر كالبشر، وتلك سلعة الله التي لا يساويها ثمن ولا يضاهيها سعر ولا تعلوها مشقة ولا قيمة، ولكن ليست غزة وحدها المعنيّة بالتغيير، وإن كانت بادرته وأول من دفع الثمن، وأكثر من دفعه، في البداية، فإن فتوحات الأرض تبدأ منها، كأنما يبعث من الجامع العمري عمرٌ نفسه، يطهر القدس، ويفتح الأمصار، ويقتحم الجدار.


يقف يحيى في مكانه صقرًا، يرقب الهدف من قريب وعن كثب، وليست بينه وبين مواقع عدوه الذي يعيث في الأرض بحثًا عنه سوى كثبان رملية وأمتار معدودة، يحاولون أن يبتغوا نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء لعلهم يجدوه، ومع ذلك فمكانه أقرب إليهم من مرمى أبصارهم، لكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وجعل الله من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشاهم فهم لا يبصرون، والقائد رابضٌ في ثغره، متموضعٌ تموضع جندي إن قيل له في المقدمة كان في المقدمة، وإن قيل له في الساقة كان في الساقة، فما بالك وهو الذي يخطط ويمكر، وينهي ويأمر، في جولة مستعرة؟ والله إنه لم يأتِ به إلا الأوائلُ، وأي رئيس ذلك الذي يقاتل من الخطوط الأمامية إلا بزيارة استعراضية خاطفة، وأي وزير دفاع ذاك الذي يدير المعركة بعيدا عن متاريسه، وأي قائدٍ ذاك الذي يلتحف قطعة من صوفٍ، ويتوكأ على عصا من خشب أو حديد، ويلبس جعبةً عسكريةً لا تلتصق بأجسام رسمية، وإنما بقوام المجاهدين الأسطوريين!


يتجلى الرجل كجبلٍ فيه بيانٌ كافٍ عن قدرة الله في خلقه، وكيف يصطفي الأبرار منهم، وفي ابتسامته وبين ثناياه نورٌ ينبعث من آخر النفق، يخبر عن نصر الله ووعده الحق، بأن هؤلاء الجند منصورون، وأن تلك المدينة رابحة، وأن تلكم التضحيات لن تضيع سدى، وأن ذلك المشهد ليس سوى قطعة من القدر الكامل، وأن العدو لن يخرج إلا جاثيًا على ركبتيه، ولن ينال إلا ما شاء الله أن يستدرجه به، ثم لا يكون النصر إلا لله ولجنده وللمؤمنين!


يقول له الجنديّ: “أسد”، وقد كان أولى به أن يقولها هو للجنود في زيارة بروتوكولية تحت الأنفاق ولا يعيبه أن يجاهد من الخندق، ولكنه هو هنا المعنيّ بالقتال، ورئيس السجال، كأن يحتمي القوم خلفه من سهام العدو ورماحه، وهو صاحب ذلك الجسد الهزيل، مستمدًا الإرث الجليل من سيرة النبي الذي كان يحتمي به أصحابه إذا حمي الوطيس واحمرَّ البأس، ويخرج فيهم دون أن تسرج الفرس، ويقول: لن تراعوا لن تراعوا!


ليس نبيًّا حاشا لله، ولا صاحبًا من أصحابه، ولا نبالغ في سرد مكارمه وقد مضى إلى ربه، لكنه رجلٌ مؤمن عرف الله فعرّفه لخلقه، وما خفي منه عند الله أعظم، وربه به أعلم، ولا أعلم ما يبكيني الآن هنا تحديدًا، وقد سالت مآقيّ على مقالي، أأبكي والدًا خلّف ولدا تائها وحده، وقد خذل أباه بما يكفي ويريد أن ينصره بما يكون معذرةً أمام الله وثأرًا أمام الناس، أم أبكي طيفًا كأنما قدم من السماء ثم عاد إليها دون أن أدركه، أم أبكي ذلك المؤمن الذي نفتقده في أمة الملياري مسلم ولا ندري أيجود بمثله الزمان أم يعاقبنا ويبخل، أم أبكي نفسي الصغيرة أمام أمةٍ عظمى هي رجلٌ واحد في ذاته؟


لعلها تبكيني بسمته، تلك الانفراجة في أساريره واثقًا كأنما يودعنا واحدًا واحدًا، بعينيه ويديه وعناقه، وهو يقول: “وللحريةِ الحمراء بابٌ.. بكل يدٍ مضرجةٍ يدق”.. ويصدمني سؤال يتوهج في رأسي فجأة: هل كان شوقي يقصد بالحرية الحمراء.. الفردوس؟ وهل كان أبو إبراهيم وحده الذي يعرف السر رغم ميلاده بعد وفاة أمير الشعراء بثلاثة عقود؟ فدقَّ الباب.. وعبر! وإلا فما تفسير تلك الابتسامة وهو يقولها غير ذلك، غير أنه كان -طوال عمره وعمله- يرى مقعده من الجنة؟

يا أبا إبراهيم.. قد صدقت الرؤيا.. وكذلك يجزي الله المحسنين!

شارك

مقالات ذات صلة