مدونات

العدوان على غزة: جراح لا تندمل ورسائل لا تُنسى

يناير 23, 2025

العدوان على غزة: جراح لا تندمل ورسائل لا تُنسى

للكاتبة: ليلى جباري


انتهى العدوان على غزة بالكثير من الجراح التي لن تندمل، وبكثير من الأسى وحصيلة ثقيلة من الشهداء والخسارات الإنسانية الفادحة، تاركًا خلفه دمارًا ماديًا كبيرًا. لكنه، في الوقت ذاته، خلف أثرًا معنويًا عظيمًا في وجدان الشعوب العربية، وغير بشكل عميق في أنماط التفكير والسلوك الجمعي، مما يجعله محطة تستحق التأمل واستخلاص الدروس.


لقد أثبتت غزة مرة أخرى أنها ليست مجرد مدينة صغيرة محاصرة، بل رمزًا للصمود والإرادة، تمكنت فيه المقاومة من الصمود في وجه آلة الحرب الجبارة، وأظهرت أن الإرادة الحرة قادرة على قلب موازين القوى. هذه الرسالة ألهمت المواطن العربي وجعلته يدرك أن القوة لا تقاس فقط بالإمكانات المادية، بل أيضًا بالإيمان بالحق والإصرار على الدفاع عنه.

ورغم محاولات التفرقة والتشتيت التي عانت منها المنطقة العربية لعقود، جاءت الحرب لتُحيي شعورًا عميقًا بالوحدة والتعاطف. تحركت الشعوب العربية، من الخليج إلى المحيط، لدعم غزة بالمسيرات والنداءات والدعاء، مما أعاد إلى الأذهان فكرة الوحدة الإسلامية والعربية وحقيقة التضامن بين أبناء الأمة الواحدة.


كما برزت المقاطعة الاقتصادية كأداة مقاومة فعّالة تُعبّر عن قوة الشعوب وقدرتها على إحداث التغيير الفعلي والملموس والقابل للقياس. أثبتت التجارب أن الاقتصاد يمكن أن يكون سلاحًا فعّالًا في مواجهة الاحتلال وداعميه، وأن الامتناع عن شراء منتجات الشركات الداعمة للاحتلال أو التي تسهم في تمويل آلته العسكرية يمثل موقفًا أخلاقيًا وسياسيًا يُضعف العدو اقتصاديًا ويُحمله تكلفة سياساته العدوانية.

إن المقاطعة الاقتصادية ليست مجرد إجراء رمزي، بل هي استراتيجية تُظهر الترابط بين الاقتصاد والسياسة. عندما يتجه ملايين العرب إلى دعم المنتجات الوطنية أو البدائل الصديقة، فإنهم يرسلون رسالة واضحة مفادها أن المال العربي لن يكون أداة لتغذية الاحتلال. كما أن نجاح حملات المقاطعة يدفع الشركات العالمية إلى إعادة النظر في علاقاتها مع الاحتلال خشية خسارة الأسواق العربية التي تمثل قوة شرائية هائلة.


القوة الكبرى للسلوك المقاطع تكمن في كونه أداة سلمية مؤثرة تُعزز الوعي الجمعي وتُشرك الجميع في نصرة القضية الفلسطينية بغض النظر عن الإمكانيات الفردية. ومن هنا، فإن تعزيز ثقافة المقاطعة وتنظيمها بشكل أكثر فاعلية ينبغي أن يكون على رأس أولويات الشعوب العربية في المرحلة المقبلة، لأن الاقتصاد هو شريان الحياة لأي كيان، وقطعه عن الاحتلال خطوة نحو تحقيق العدالة والحرية.


أعادت الحرب ترتيب الأولويات لدى المواطن العربي. فقد بات واضحًا أن قضية فلسطين ليست قضية فلسطينية فحسب، بل هي قضية كل عربي ومسلم. هذا الوعي المتجدد دفع الكثيرين للتساؤل عن دورهم في دعم القضية، سواء بالدعاء، أو الدعم المالي، أو التأثير الإعلامي والسياسي. أظهرت الحرب أهمية الوعي السياسي لدى الشعوب، وأكدت أن الانخراط في القضايا الكبرى ينعكس إيجابًا على واقع المجتمعات. لوحظ ارتفاع مستوى الحوار حول الحقوق والعدالة وضرورة الوقوف في وجه الظلم. كما ازدادت المطالب الشعبية بتحقيق إصلاحات سياسية تُمكّن الدول من لعب دور أكبر في دعم قضايا الأمة.


لم تكن الرسائل التي أرسلتها غزة قاصرة على العالم العربي، بل امتدت لتشمل المجتمعات الدولية. أظهرت الحرب أن الشعب الفلسطيني يقف على خط المواجهة نيابة عن الإنسانية كلها، وأن معركته هي معركة حرية وعدالة ضد الظلم والقهر. ورغم الخسائر الجسيمة التي خلفتها الحرب، فإن أثرها في الأنفس والسلوك الجمعي كان عظيمًا. لقد أعادت للإنسان العربي شعوره بالقيمة والقدرة على الفعل، وأثبتت أن الأمل يمكن أن يزهر حتى وسط الرماد.


رسائل غزة وعِبرها أعظم من خساراتها، والدروس المستفادة من هذه الحرب يجب أن تكون منطلقًا لمزيد من العمل والتغيير. الطريق نحو الحرية والكرامة لا يزال طويلًا، لكنه ليس مستحيلًا.

شارك

مقالات ذات صلة