سياسة

في اليوم التالي للحرب.. مَن الجنرالات اليوم؟!

يناير 20, 2025

في اليوم التالي للحرب.. مَن الجنرالات اليوم؟!

شهدت الشهور الماضية  نقاشًا مطولًا عن مفهوم “اليوم التالي للحرب”، شارك فيه الأمريكيون والأوروبيون وأجهزة المخابرات الإسرائيلية والغربية، وقدَّم “أشقاء” فلسطينيون تصوراتهم التي “تُضفِّف غزة” وتحولها إلي نسخة من كيان الضفة الغربية الحالي، من حيث إمكانية دخول قوات الجيش الإسرائيلي في أي وقت لتقتل من تشاء وتعتقل من تشاء.

كان ضمن تصوُّر “الأشقاء” أن يدخلوا غزة بأي شكل، ولو على ظهر دبابة إسرائيلية. ولِمَ لا؟ فالجيش الإسرائيلي يقول إنه “قضى على الجناح العسكري والإداري لحماس”، ولم تبق قوة لتصارع هؤلاء “الأشقاء” على الحكم.

في غضون ذلك، كان الجيش الإسرائيلي ماضيًا في (خطة الجنرالات) وتهجير أهل الشمال جنوبًا إلى مدينة غزة، وفي سعيه لذلك دمَّر المستشفيات وأحرق سيارات الدفاع المدني وقتل الأطباء والمسعفين ورجال الشرطة وأفراد تأمين المساعدات، وحاصر مراكز الثقل السكاني في جباليا ومخيمها وبيت حانون، ودمرها حيًا حيًا، وبيتًا بيتًا. وعندما لجأ الأهالي إلى المدارس ومراكز الإيواء، استهدفها الجيش على عَجَل وأحرقها ثم استخدمها كمرابض لدباباته ومجنزراته وناقلات جنده.

لم يتوان الجيش عن حرق أكبر مستشفى في الشمال، “كمال عدوان”، معتقلًا مديره وطاقمه الطبي وبعض الجرحى وذويهم، وأعلن عن ذلك لرسم صورة المنتصر الذي لا يهمه شيء، ولإلقاء الرعب في قلوب من بقوا في الشمال، وذلك لدفعهم إلى الهرب فورًا، أو للموت إما بشكل بطيء جوعًا وعطشًا، أو بشكل سريع (إن كانوا محظوظين) قصفًا.

من ناحية أخرى، كانت أطراف محلية وإقليمية ودولية ترقُب تحقيق إسرائيل مرادها، حتى يتسنَّى لهم تغيير الخارطة والواقع والمستقبل، لكن رياح ديسمبر ويناير أتت فعليًا بما لا يشتهي الجنرالات ومحبوهم.

إذ مع تغيُّر المزاج الأمريكي باقتراب تنصيب ترمب رئيسًا للولايات المتحدة، وحرصه على إنهاء ملف الصراعات، اضطر نتنياهو إلى تقديم تنازلات جوهرية والموافقة على الصفقة التى كانت مطروحة على الطاولة منذ ديسمبر٢٠٢٣، طبِقًا لتصريح رئيس الوزراء القطري.

وافق نتنياهو لأول مرة على ربط المراحل الثلاث للصفقة، وصولًا لما يُعرف بـ(الهدوء المستدام – Sustainable Calm)، الذي يلجأ إليه الإسرائيليون تخفيفًا من وقع الهزيمة التي يمثلها تعبير (وقف إطلاق النار الدائم – Ceasefire) الذي أوضح قادة الجيش الإسرائيلي مرارًا وتكرارًا أنه لن يحدث إلا بعد تحقيق أهداف الحرب، و”التي لم يتحقق أي منها”.

وقبل يوم واحد من تنصيب ترمب رئيسًا للولايات المتحدة، استيقظ الإسرائيليون على انسحابات الجيش الإسرائيلي من القطاع، وذلك بعد ١٥ شهرًا من التصريحات عالية السقف التي أدلاها نتنياهو وقادة جيشه ووزرائه حول أن إسرائيل لن تتوقف قبل تهجير الشمال، وإصرارهم على الحفاظ على محوري نتساريم وفيلادلفيا، وربما عودة الاستيطان إلى القطاع مرة أخرى، إضافة بالتأكيد إلى إنهاء حماس، البشر والفكرة.وقد امتدت صدمة القرار بالانسحاب إلى فلسطينيين وعرب كُثُر، ممن كانوا يروجون لما يُعرف بـ”اليوم التالي لوقف الحرب على غزة”.

لنضع أنفسنا مثلاً في مكان ذاك العجوز الذي كان يُمني نفسه بحكُم غزة دون مشاركةٍ مع الفصائل، ورَفَض المقترح المصري الذي يقضي بتشكيل لجنة مشتركة لإدارة غزة، وأبلغهم أنه سيحكمها وحده بتكبُّر بالغ، معتمدًا على أن إسرائيل تستطيع تحقيق هدف حربها وإنهاء الهيكل العسكري لحماس في غزة.

لكن ما جرى عصر الأحد ١٩ يناير ٢٠٢٥ كان صفعة ليس لـ “الجنرالات” وحدهم، بل صفعة شخصية له، شعر بها أيضًا جمهوره من (عرب نتساريم) الذين كانوا ينتظرونه ويتوقعون وصوله قريبًا، معولين بدورهم على بيانات الإسرائيليين عن تدمير حماس.

فبعد أشهر طويلة من القصف والتدمير الممنهج والعقاب الجماعي لإجبار الغزيين على نسيان ٧ أكتوبر، وتأجيج كراهية هذا اليوم داخلهم وإذكاء الحقد فيهم على من شارك في هذا اليوم، تابع الإسرائيليون بصدمة  استعراضًا عسكريًا جماهيريًا شارك فيه العشرات من مقاتلي القسام، الذين ظهروا في الشوارع في آن واحد بزيهم العسكري الكامل.

كان بعضهم يحمل شارة وحدة النخبة، والبعض الآخر ظهر بشارات وحدات خاصة أخرى للقسام، وتحركوا بسلاحهم الخفيف والمتوسط، وباستخدام سياراتهم الشهيرة التي عرفها العالم في السابع من أكتوبر.

الصفعة لم تكن بالاستعراض العسكري وحده، بل كانت في اختيار المكان، وفي مدى التلاحم الجماهيري معه!

اختار المخطط القسامي “مفترق السرايا” لهذا العرض الذي سيجري فيه تسليم الأسيرات الإسرائيليات، لإيصال عدة رسائل، أولها أن المفترق في قلب مدينة غزة التي اجتاحها الجيش الإسرائيلي مرارًا وتكرارًا، ولم تنقطع الطلعات الجوية فوقه للحظة واحدة طيلة ١٥ شهرًا. وثاني تلك الرسائل كان القُرب المكاني من “ساحة السرايا”، التي كانت مقرًا أمنيًا كبيرًا لجنود الاحتلال قبل انسحاب الجيش عام ٢٠٠٥. 

كان الأمر أشبه باختبار مفاجئ للحركة ولشعبيتها، وبدلًا من أن يصب المارة والمتجمعون الغاضبون المكلومون، الذين رزحوا تحت الإبادة لـ ٤٧٠ يومًا، غضبهم على القسام الذي “جنى عليهم هذه الحرب”، هتفوا لهم بالهتاف الشهير: “تحية للكتائب” في مشهد سيعلق في ذاكرة من حضره وتابعه إلى الأبد.

في رمزية أخرى صبيحة ذات اليوم، ولكن قبل هذا الاستفتاء الشعبي بساعات، مع دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، تحركت قوافل العائدين إلى الشمال مجددًا. عادوا مشاة وراكبين. لا مبانٍ هنا، ولا مساجد، ولا مستشفيات، ولا حتى شوارع. تعمدت إسرائيل أن تحول هذه المناطق إلى مساحات ركام مفتوحة بلا معالم ولا ملامح. وكأنها توابيت متراصة، كمحاولة لتهجير السكان. وبالرغم من أن العائدين كانوا يعرفون أن بيوتهم مُحيت، وأن حاراتهم طُمست، ولم يبق لديهم سوى الذاكرة، لكنهم عادوا للتأكيد على فشل خطة الجنرالات المهزومين. ولعل العائدين وقفوا أمام المدرعات المدمرة في طريقهم لجباليا وتسائلوا بزهو: “مَن الجنرالات اليوم؟!”.

شارك