آراء

الآن يا غزة!

يناير 20, 2025

الآن يا غزة!

“وقيل يا أرض ابلعي ماءكِ ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقُضي الأمر واستوت على الجوديّ وقيل بُعدًا للقوم الظالمين”; الآن يا غزة تستوي سفينة الطوفان، وترسو مراكب الموت، وتسبح قوارب الصمت، وترتاح مواكب الشهداء، وتنقشع غمامات الحرب، ويهدأ تلاطم الأمواج، وتخمد حمم البراكين، وتسترخي الجبال العظام، وتهاجر سحب البلاء، وتتنفس ذرات الهواء، وتتنهّد الأرض والسماء، وبينهما نفَس طويل معبأ برواسب البارود، ودموع الفقد، وجنون النجاة، وغصة أن لم ينجُ منك سواك، وتخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، الجميع يريد أن يصدق وألا يصدق، أن يصدق أن الحرب الجمعية انتهت، وألا يصدق أن الحرب الفردية لكل امرئ بدأت للتوّ، بحثًا عمن فقد، ودفنًا لما وارى على عجل، وتفتيشا بين الأرصفة على بقايا الأدمغة، وفتحا لسرادق العزاء الكبير، ونصبًا لخيمة الفرح الكبيرة، وإعلانًا لصراع داخلي شرس بين جزءَي إنسان يموت كل يوم، وينجو كل يوم، منذ عام ونصف، وعليه الآن التعامل وفق قاعدة جديدة: أنه الميت الناجي!

الآن يا غزة، يخرج الناس من الأجداث كأنهم جراد منتشر، ويخرج الناس كأنهم بعثوا بعد موت طويل، ويخرج الناس كأنهم يساقون إلى الجنة زمرا، ويخرج الناس كأنهم مسافرون في رحلة زمنية طويلة بين عالَمين، حساب الأيام فيها ليس بأيامنا وشهورنا وإنما بحسابات فضائية، ويحجّ الناس في سبيل الله نحو بيوتهم أو ركامها، بعد رحلة طويلة من الطواف بين الخيام والنزوح والمشارح ومدارس الإيواء، يخرج الناس بعد سبعمائة شوط بين الجنوب والوسط والشمال، يخرج الناس وليست عليهم إلا خرقة واحدة، وفي قلوبهم ألف سر يودون قوله للأرض.

الآن يا غزة، ثمة مقاتلٌ جسورٌ ثابتٌ قابضٌ على جمره وثغره منذ خمسة عشر شهرًا، شهد ما شهد من المشاهد، وصال وجال في براثن المعارك، وحارب بين فكَّي النصر والشهادة حتى كانت له الغلبة، لا يستطيع أن يغلب بكاءه أكثر من هذا الحد، انهارت خطوط دفاعه، وأجدبت جعبته الواقية، وتمزقت نياط قلبه، وخرَّ على ركبتيه وجبهته في تلك اللحظة تحت ضوء الشمس، ولمعان أشعتها في المدى، غامسا جبهته في رطوبة الطين الطازج المتسلل معه من النفق، يبكي طويلا، لا يقاوم أكثر، تكفيه مقاومته لعدوه، أيقاوم صديقه الحزن أيضا؟ ربط الجرح بما يكفي من أيام وليالٍ، حتى نسي روحه المبتورة، واليوم، اليوم فقط حان وقت فك الضمادة، والتحلل ساعةً من الرباط، ليعانق حجارة بيته طويلا، غرف إخوته، أواعي أمه، نظارة أبيه، ويلملم العظام العظام، ويدفنها جميعًا في حوش المنزل، وقد كان خياره أن يقيم في بيته، أو تقيم بقاياهم، فاختار إقامتهم، وأقام بجوارهم له منزلًا، قوامه يداه المرتجفتان، وعيناه الباكيتان، ونشيجه الصبيّ، كصغير في العاشرة من عمره، لا يعلم كيف سيعيش بعد اليوم، ثم سيعود بعد قليل، يتدثر بالنفق وينام.

الآن يا غزة، يتفقد الأحباب أحبابهم، ليس كعيدٍ يتزاور فيه الأحياء، وإنما الموتى، نصف المعيّدين أحياء، يعيّدون على النصف الآخر، تحت الأنقاض وفي مدافن المستشفيات، يرى كل امرئ ما فقد، لم تمهل الحرب أحدهم حزنًا كافيا لواحد واحد، وإنما كان يقضي وقته يحاول الحفاظ على ما تبقى منه، وفي النهاية قد يكون بلا أحد، يرد عليه السلام حين يأتي ملقيًا إياه بعد حرب الخمسمئة يوم.

الآن يا غزة، تبكين طويلا طويلا طويلا، ثم تتنفسين وتكبّرين لنصرك، وتوقنين بأنك صنعتِ المعجزة، وأنكِ استحققتها، وأن الله منَّ عليك بفضله فلم تنكسري، ولم تسلمي، ولم تستسلمي، ولم ترفعي غير رايات الجهاد وأعلام البلاد، ولم تعطي الدنيّة ولم تفرطي في القضية، ولم تقبلي بما قبل به آخرون، ولم تستسهلي طريق الحق على قسوتها، ولم تستسيغي الواقع بأن تراق دماء بنيك سدى، ولم تخوني العهد أبدا.

الآن يا غزة، يمكنك السير بين مدن الأرض كأنك لا تنتمين إلى تلك الكرة البائسة مثقال ذرة، يمشي أولادك أسدا ضارية، يهبطون من علٍ، ويصعدون من أسفل، ويلتقون بين الأرض والسماء، كأنك أرض من الجنة في الأرض، أو قطعة من الأرض في الجنة.

الآن يا غزة، الآن يا شهداء، الآن يا قادتنا الماجدين، الآن يا أهل الفردوس، وسكان الجنان، وأصحاب الأرض، وورثة السلاح ومورثي الكفاح، الآن يمكنكم الضحك بعد عقود من العمل الشاق، الآن يمكنكم تكحيل عيونكم بالنصر وتحرير الأسرى بعد سنوات من التخطيط والإعداد، الآن يمكنكم أن تقر عيونكم بعد شهور من السهر والأرق، الآن يمكنكم الالتقاء على فطور هنيٍّ في الجنة بعد صيام طال أمده، الآن يمكنكم أن تبكوا غزة فرحًا مع ترح، وجبرا بعد صبر، ويسرةً بعد عسرة، وقد مرغتم أنوف العدو في الوحل، وسقيتموه من ملح البحر وعاد ظمآنا، خسرانا، لا يعلم ماذا حقق بعد كل ذلك الإجرام ومص الدماء وحرق خمسين ألف شهيد وتهجير مئات الآلاف، بينما ما زالت غزة حية، تتوجع وتبكي دما، لكنها لم تمت، لكنها لا تموت.


شارك

مقالات ذات صلة