الساعة الآن الثامنة والنصف بتوقيت غزة. ننقل لكم عبر الأثير، نزف تجرع العلقم، بكل ما فيه من صرخاتٍ تراجعت أمامها أنياب الموت والدمار عن ملاحقة وجع المدينة، خائبةً، مُعلنةً استسلامها أمام أرضٍ علمت آهات أمها الحيرى والقيد في رسغها كيف يكون نداء الحرية.
صمتٌ ثقيلٌ يغمر المكان، بصخبه وضجيجه، يزور أزقة المدينة حائرًا، يلملم رائحة الرماد، عسى أن تستجمع رئة المدينة أنفاسها المتهدجة من عصف الفقد والحنين. تتسلق الشمس جدرانًا أكلها الدمار، باحثةً عن بقية بيتٍ أو حجر، ثم تختبئ خجلًا من كشف تجرد المكان من ملامح الحياة. فتواسيها سماءٌ أثقل كاهلها السواد، لكنها تصطبغ بألوان الأمل، معانقةً البحر الذي حفرت أمواجه كل قصةٍ أشاروا لها برقمٍ أبت ذاكرة المدينة أن تنساه، لتظل حاضرةً في أعماقٍ تأبى الغياب عن تاريخٍ خُطّ على هذه الأرض.
تتلاحق أصوات الفقد، تُحطم الهدوء وتُثير حالةً من إدراك الحنين، تخطّها أيدٍ تبحث بأحلامٍ معلقة عن بقية صورة تُخلد ذكرى غائبٍ لن يعود. تستنشق الذكرى وتجد في الدماء التي غسلت أدران الظلم بطهارتها ملاذًا، ثم تنسج الأمل والحياة من بين أنقاضٍ وركام، كطائر العنقاء الذي تسلق جدران الوجع بعدما احترق تحت وطأة نيران الظلم. تبعث غزة من رمادها في كل مرة تجرعت فيها الألم والدماء.
أطفال يركضون في الشوارع، يضمدون جراح مدينتهم بابتساماتهم البريئة، وأمهات يرسمْنَ من الحطام لوحةً تكتب في طياتها أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة. رجالٌ يصفّون الحجارة، حجرًا فوق حجر، يزرعون بها بذور الصمود بين وجع البدايات وثقل النهايات.
غزة تعلن عن أبجديةٍ جديدة، تخلو من حروف النهاية، وترسم ملامح أملٍ لا يُهزم.