سياسة

من الحصار إلى النصر: كيف قلبت المقاومة الطاولة على الاحتلال؟

يناير 19, 2025

من الحصار إلى النصر: كيف قلبت المقاومة الطاولة على الاحتلال؟

 غزة اليوم ليست كما كانت بالأمس، وما تحقق في هذا الصراع الأخير ليس مجرد أرقام أو معارك خاضتها المقاومة، بل هو فصل جديد في كتاب الكرامة والصمود الفلسطيني الذي يمتد على مدى عقود. من يتحدث عن الهزيمة والخسارة، سواء كان من صهاينة العرب أو ممن وقع في فخ دعاياتهم، يغفل أو يتغافل عن حقيقة واضحة لا تقبل الجدل: غزة انتصرت، والمقاومة نجحت في فرض إرادتها على واحدة من أقوى الآلات العسكرية في العالم.


الاحتلال دخل هذا الصراع بأهداف كبرى وخطط محكمة، يسندها الدعم الدولي والإقليمي، لكنه خرج منه خالي الوفاض. لم يستطع احتلال غزة، ولا استعادة الأسرى بالقوة، ولم ينجح في إنهاء حكم المقاومة أو البقاء في شمال غزة. سقطت كل محاور الهجوم التي خطط لها الاحتلال، من نتساريم إلى رفح إلى فيلادلفيا، وفشلت محاولاته لترحيل أهل غزة أو بناء مستوطنات جديدة. حتى المخططات الأكبر، مثل تطبيق صفقة القرن أو تهجير أهل غزة إلى سيناء، تحطمت أمام إرادة الصمود. هذه الفشل المتتالي ليس مجرد خسائر تكتيكية، بل هو دليل على تفكك قوة الاحتلال أمام عزيمة شعب محاصر لكنه يرفض الخضوع.


المقاومة، في المقابل، أثبتت أنها صاحبة اليد العليا في الميدان. فرضت شروطها، وحررت آلاف الأسرى بالقوة، وألحقت بالعدو خسائر بشرية واقتصادية هائلة. أكثر من 1500 دبابة دُمِّرت، وأكثر من 30 ألف صهيوني أصيبوا، ونزح أكثر من 150 ألف مستوطن من مناطق المواجهة. الخسائر الاقتصادية للاحتلال تجاوزت 34 مليار دولار، مما جعل اقتصاده يترنح تحت وطأة العجز. الجيش الذي كان يُنظر إليه كقوة لا تُقهر خرج من هذه المعركة مهزوماً، ومكانته العسكرية هُشمت أمام أعين العالم.

لكن الغنيمة الكبرى والأهم كانت الحفاظ على شرف وكرامة غزة، وانتزاع حقها في الحياة بحرية وعزة دون إذلال أو هيمنة. وهذه المكاسب ليست مجرد إنجازات لحظية، بل هي أسس جديدة لمعركة طويلة تستمر فيها غزة بتحديها للاحتلال.


هذا الطوفان العظيم لم يكن مجرد حدث عسكري أو سياسي؛ بل كان درساً عميقاً في بناء الشخصية الإسلامية. من قلب الحصار والدمار، ولدت معاني العزة والإيمان بقوة الله. جيل كامل من أبناء الأمة الإسلامية تعلم أن الكرامة لا تهزم مهما تكالبت قوى العالم. الأطفال الذين شاهدوا صواريخ المقاومة تخترق حصون العدو أصبحوا يدركون أن المستحيل كلمة لا مكان لها في قاموس الإيمان بالله والإرادة الحرة.

لقد تحول كثير من الشخصيات المنهزمة، التي كانت ترى في العدو قوة لا تُقهر، إلى شخصيات منتصرة، تحمل في قلوبها يقيناً بأن الله لا يخلف وعده. مشاعر الخوف التي سكنت أجيالاً طويلة من المسلمين أمام الآلة الإعلامية والعسكرية الصهيونية تحطمت، ليحل محلها شعور بالثقة والاعتزاز بدينهم وقضاياهم.

إن ما غرسه هذا الطوفان في أجيال الأمة الإسلامية لا يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل امتد ليشمل الجوانب الفكرية والنفسية. أصبحنا نرى شباباً وشابات يرفعون رؤوسهم عالياً، يؤمنون بقدرتهم على التغيير. رأينا كيف تفاعلت الشعوب الإسلامية مع غزة، وكيف أصبح صوت الحق أقوى من كل الدعايات المضللة.


النصر الذي تحقق ليس مجرد محطة؛ بل هو بداية لعهد جديد تتغير فيه معادلات الصراع. المقاومة أثبتت أن الشعوب الحية قادرة على قهر أي قوة مهما بلغت، وأن تحرير الأرض يبدأ بتحرير العقول والقلوب. هذا الطوفان أثبت أن الأمة الإسلامية إذا توحدت خلف قضية عادلة، فإنها قادرة على صنع المستحيل.

أما أولئك الذين يروجون للخسائر البشرية كدليل على الهزيمة، فإنهم يغفلون حقيقة أن الشهداء ليسوا أرقاماً بل أرواحاً طاهرة أكرمها الله بالشهادة. هؤلاء الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وقد نالوا ما يحلم به كل مسلم: الجنة بلا حساب. نحن نحزن على فقدانهم، لكننا نغبطهم على مقامهم الرفيع، ونعرف أن دماءهم الزكية هي التي زرعت بذور الكرامة في أرض فلسطين.


غزة اليوم لم تعد مجرد بقعة صغيرة محاصرة؛ بل أصبحت نبض الأمة، وراية عالية تذكر الجميع بأن الكرامة والعزة ليستا حلماً بعيد المنال، بل حقيقة يصنعها الأحرار. هذا النصر هو شهادة على أن الأمة الإسلامية قادرة على تجاوز كل المحن، إذا ما التزمت بقيمها وتوحدت خلف قضاياها.

في النهاية، المقاومة ليست مجرد بندقية أو صاروخ؛ إنها إرادة أمة تحيا بالله، وكرامة شعب لا يقبل الذل، ورسالة للعالم أجمع بأن العدل سينتصر مهما طال الطريق.

شارك

مقالات ذات صلة